عندما بلغه موت المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز، أعرب الرئيس الاميركي باراك اوباما عن حزنه العميق «لفقدان صديق نزيه وصريح.» ووصفه في مؤتمره الصحافي بأنه: «قائد شعبي، يتحلى بجرأة نادرة للتعبير عن قناعاته الراسخة».
وكان بهذا الكلام القليل والمعبِّر يختصر مسيرة علاقات وثيقة، بدأت في ربيع 1945 عندما التقى الرئيس فرانكلن روزفلت والملك عبدالعزيز على متن البارجة الاميركية «كوانسي» في قناة السويس. واستمرت تلك العلاقات تحت قاعدة «النفط مقابل الأمن» أكثر من سبعين سنة من دون أن تتعرض للتصدّع أو التراجع. ويرى السعوديون أن الأزمتين اللتين خلفتهما مشكلة حظر النفط في حرب 1973 وعملية 11 أيلول (سبتمبر) 2001، لم تتركا الأثر العميق لعرقلة تنفيذ الاتفاقات المعقودة بين الدولتين.
وعندما باشر الرئيس باراك اوباما جولاته الخارجية حرص على زيارة المملكة العربية السعودية (تموز/ يوليو 2009) نظراً الى أهمية الدور الذي تلعبه في المنطقة. وسعى في حينه الى التحرر من الإرث الثقيل الذي تركه سلفه جورج بوش الابن في العراق، مع وعد بأن يحسّن صورة بلاده في الشرق الأوسط.
ولكن ذلك الوعد اصطدم باعتراض الدول الخليجية، إضافة الى مصر والأردن، لأن واشنطن شرعت في فتح باب الحوار والتعاون مع ايران، الخصم المركزي الاقليمي لهذه الدول. ورأت الرياض أن تقارب واشنطن وطهران ليس أكثر من تمهيد لابتعاد اميركي عن المنطقة، وتركها عرضة لتجاذبات متواصلة عززت تدخل دول اوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وايطاليا.
وساد في الخليج رأي يقول إن مثل هذا التحول السياسي سيفسح المجال لمزيد من تمدد نفوذ ايران المنتشر حالياً من حدود لبنان («حزب الله») مروراً بسورية والعراق وانتهاء باليمن والصومال. ومعنى هذا أن ايران ستسيطر على مضيقي هرمز وباب المندب، ومختلف الطرق البحرية المستخدَمة لمرور ناقلات النفط العملاقة.
وإزدادت الشكوك حول أهداف الولايات المتحدة، خصوصاً بعدما تراجع اوباما عن قرار ضرب سورية في ايلول (سبتمبر) 2013، خوفاً من إغضاب ايران وقطع المحادثات معها. وكانت خطوة التراجع المفاجئ بمثابة الشهادة الدامغة على إنكفاء واشنطن عن تحمل تبعات الالتزام المعنوي الذي عبَّرت عنه مختلف الادارات الاميركية.
عقب تراكم الأدلة على الانعطافة السياسية الاميركية، كلف العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد الأمير سلمان القيام بجولة آسيوية شملت الصين واليابان والهند وباكستان، عقد خلالها سلسلة اتفاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية، قابلتها واشنطن وطهران بالتشويش والانتقاد. كل هذا لأن نجاح جولة الأمير سلمان لم يرقْ للرئيس اوباما الذي زار السعودية بعدها لترميم صورة بلاده، وإعادة الثقة بجدوى العلاقات الخاصة التي عززت تعاون الدولتين.
وفي حديث شامل استغرق ساعتين، قام الرئيس اوباما بمراجعة موقفه المستجد من ايران، ووعد الملك عبدالله بعدم عقد اتفاق يسيء للمملكة وللعلاقات التاريخية معها. وقال – بحسب التقارير – إن عينيه المفتوحتين ستراقبان بامعان كل التفاصيل المريبة.
ولما تركز الاهتمام على دور ايران المهم في إنقاذ نظام الأسد، طلب الملك عبدالله من الرئيس الاميركي أن يعامل البحرين كخط أحمر، لأن زيادة الضغط عليها يشكل خطراً محدقاً بكل الأطراف المعنية.
المهم، ان البيت الأبيض أصدر بياناً قال فيه إن المحادثات انتهت بالاتفاق على الاستراتيجية مع بقاء الاختلاف على التكتيك. ومع أن الفريقين اتفقا على عدم الاختلاف، إلا أن إصرار اوباما على إبرام اتفاق حول الملف النووي مع إيران أثار حفيظة الرياض، خصوصاً بعدما واظبت طهران على توسيع مساحة نفوذها في اليمن والعراق وسورية ولبنان.
وحدث في الوقت ذاته أن انهار سعر النفط في الأسواق العالمية، الأمر الذي حفز الولايات المتحدة على التبجّح بأن إنتاجها من النفط الصخري سيؤمن استقلاليتها في مجال الطاقة. واستغل بعض الخبراء هذه التوقعات للمطالبة بإنهاء التحالف الاستراتيجي بين واشنطن والرياض. والسبب أن إنتاج النفط في اميركا عام 2016 سيبلغ عشرة ملايين برميل في اليوم. ومعنى هذا أنه سيكون للاميركيين هامش أوسع للمناورة في الأمور المتعلقة برسم سياستهم في الشرق الأوسط.
تحت تأثير هذه المعادلة، قرر اوباما إرسال نائبه جو بايدن للمشاركة في تشييع الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز في الرياض. ولكنه تراجع عن هذا الخيار بعدما بلغه أن غالبية حكام العالم قد شاركت في واجب العزاء. لذلك اختصر زيارته الرسمية للهند، وعاد الى الرياض على رأس وفد ضخم يضم كبار الشخصيات السياسية الاميركية، إضافة الى مسؤولين سابقين في الحزبين الجمهوري والديموقراطي.
وكان لافتاً استقدام سياسيين جمهوريين من أمثال منافسه على الرئاسة السناتور جون ماكين والوزير السابق جيمس بيكر. إضافة الى كبار العسكريين ممن تعاونوا على قمع منظمات الإرهاب في الخليج العربي. والهدف، كما يراه المراقبون المحايدون، هو تعزيز حضور الشهود الاميركيين على فتح صفحة جديدة من العلاقات المتينة مع العاهل السعودي الجديد سلمان بن عبدالعزيز.
والملك سلمان تنقل في كراسي الحكم مدة تزيد على النصف قرن تقريباً. وارتبط اسمه بإمارة الرياض، نظراً الى الاهتمام الخاص الذي أولاه للعاصمة التي حملت بصماته في كل شارع وكل تنظيم إداري. وسانده في هذا المسار العمراني العاهل السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز. ومنه اقتبس حب الانضباط واحترام الوقت والمواعيد. لهذا كان يباشر مهماته في الصباح الباكر، أي قبل أن يمتلئ مجلسه بأصحاب الشكاوى والمطالب. وكثيراً ما كانت مجالسه الصباحية تمتد الى وقت الصلاة عند الظهيرة. أي بعدما يطمئن من مساعدَيه محمد العتيبي وعسّاف بوثنين أن كل الشكاوى وصلت الى مكتب أخيه ونائبه المرحوم سطام بن عبدالعزيز ووكيل الوزارة عبدالله البليهد.
والحديث عن الملك الجديد يقود الى التذكير بواحدة من منجزاته هي «دارة الملك عبدالعزيز». وقد أوكل وظيفة الأمانة العامة الى الدكتور فهد بن عبدالله السماري الذي يشرف أيضاً على إصدار مجلة فصلية تحمل اسم «الدارة». وبلغ من شدة حرص الأمير سلمان على الاهتمام بهذه المؤسسة أن جمع لها كل ما يخطر على البال من وثائق وصور ومنشورات ورسائل ذات قيمة تاريخية.
يقول الذين عملوا مع الأمير سلمان في إمارة الرياض إن تعلقه بالقضايا الثقافية والتاريخية بلغ حد الشغف. والشاهد على ذلك أن المعرض الجوال، الذي حمل اسم «الرياض… بين الماضي والحاضر»، كان نموذجاً ناجحاً لإعطاء الرأي العام الخارجي صورة مصغرة عن العاصمة التي نمت بإشرافه وتخطيط أهم مهندسي المدن. وقد حرص الأمير سلمان شخصياً على افتتاح هذا المعرض في قاعات «اولمبيا» في لندن، بحضور عمدة العاصمة والأمير تشارلز والأميرة الراحلة ديانا. وقد استقبلت في حينه الصحف البريطانية هذا الحدث الثقافي بكثير من الثناء والإطراء والترحيب. ومن لندن نقل المعرض الى مدن اميركية واوروبية وآسيوية عدة، وذلك بهدف إظهار الوجه التاريخي والثقافي لبلاد رسالة الاسلام التي لا يرى فيها الغرب سوى خزان كبير للنفط.
عقب إنفجار حرب لبنان (1975-1990) اختار الأمير سلمان الذي كان يصطاف في عاليه، مدينة ماربيا الاسبانية. وحجته أن هذه المدينة الأندلسية كانت تجمع كل المصطافين العرب الذين تحتضنهم منتجعات لبنان ومصر والمغرب. وبسبب علاقته المميزة مع المسؤولين الأسبان، سُمِح له بتشييد أول مسجد في مدينة اسبانية منذ خروج العرب (711هـ – 1492م). وقام رئيس البلدية بتلك البادرة كعربون صداقة لأمير الرياض الذي استخدمها لإحياء التراث العربي في المدن التاريخية مثل: قرطبة وإشبيلية وغرناطة وقصر الحمراء. وفي هذا السياق، شجع حملة إصدار سلسلة كتب باللغات الأجنبية من أجل إبراز الايجابيات التي حققها وجود العرب في تلك البقعة الاوروبية.
وفي عام 1997 نقل صورة هذه الايجابيات الى جبل طارق حيث دشن باسم الملك فهد بن عبدالعزيز افتتاح جامع يحمل اسم القائدين طارق بن زياد وموسى بن نصير. وهما القائدان اللذان نقلا الحضارة الاسلامية الى الأندلس بعدما حققا لجيشهما النصر في جبل طارق. وفي كلمة ألقاها الأمير عبدالعزيز بن فهد، أكد أن المشروع يجسد التواصل بين الماضي والحاضر… بين الشرق والغرب… بين الحضارة الاسلامية والحضارة المسيحية.
ورد عليه نائب حاكم جبل طارق، مايكل روبنسون، بالقول إن المسجد شيَّد في الموقع الذي نزل فيه طارق بن زياد، مؤسس أول حركة إنفتاح بين اوروبا والعالم العربي الاسلامي.
عقب إعلان المبايعة، وجّه الملك سلمان كلمة الى المواطنين استهلها بالقول: «إن الأمة العربية والاسلامية بعد رحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، أحوَج ما تكون اليوم الى الوحدة والتضامن.» وتعهد بالتزام الخط السياسي الذي رسمه المؤسس الملك عبدالعزيز، سائلاً الله أن يوفقه لخدمة شعبه العزيز، ويحقق آماله، ويحفظ للمملكة والأمة الأمن والاستقرار، وأن يحميها من كل سوء ومكروه».
ويتوقع المراقبون أن يباشر الملك سلمان مهماته المستعجلة باستثمار حضور المعزّين، خصوصاً أولئك الذين تجاوزوا كل الخلافات السابقة، وقدموا الى الرياض للمشاركة في واجب التعزية والتهنئة. ويأتي في رأس القائمة: الرئيس العراقي فؤاد معصوم، والرئيس السوداني عمر البشير، والرئيس التركي رجب طيب اردوغان. وربما تفتح مشاركة وزير خارجية ايران محمد جواد ظريف باب الحوار مع القيادة الايرانية التي أرسلته لتقديم واجب العزاء باسمها.
وترى الأمم المتحدة في حال مباشرة هذه الخطوة، أن تأثيرها سيُلامس معظم المشاكل الخطرة في المنطقة، مثل مشكلة الحوثيين في اليمن، ومشكلة «حزب الله» في لبنان والبحرين، ومشكلة المعارضة المعتدلة حيال نظام بشار الأسد.
ويتوقع المحللون أن تسهل عملية الانتقال السلس إستئناف المشاريع الحيوية، خصوصاً أن الدولة تملك احتياطات مالية كبيرة (750 بليون دولار) جُمِعت خلال سنوات طفرة أسعار النفط.
وكان الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز قد أجرى في السنة الماضية تعديلاً وزارياً واسعاً، ولكنه احتفظ بوزير الطاقة علي النعيمي. علماً أن النعيمي يشغل هذا المركز منذ عام 1995، وأنه طلب عدة مرات إعفاءه من المسؤولية.
تؤكد مصادر مطلعة في المملكة أن النعيمي سيواصل مهمته الى حين إعادة الاستقرار لأسعار النفط بواسطة «أوبك»، خصوصاً بعدما تبيَّن أن إنتاج النفط الصخري لم يعد مجدياً أو مربحاً بالنسبة الى الدول التي تستثمره. وقد كثرت الشكاوى ضد الشركات العاملة في هذا الحقل لأن مخاطرها على البيئة فاقت التوقعات.
الأسبوع المقبل يباشر الملك سلمان إعداد برنامجه السياسي للمرحلة الأولى من حكمه. ومن المتوقع أن يبدأ بمعالجة القضايا الملحة، الاقليمية منها والدولية. وبما أنه شارك في الاطلاع على كل الملفات السابقة منذ تعيينه ولياً للعهد عام 2012، فان هذه الميزة ستساعده على تخطي متاعب المستقبل.