سياسة على الغلاف
تشير معطيات جهات سياسية رفيعة المستوى الى وجود تباين ولو محدود بين النظرتين الأميركية والسعودية الى كيفية معالجة الأزمة في لبنان. يتوافق الطرفان على التشخيص بأن الحكومة في بيروت ليست في متناول اليد، وعلى أن «الأعداء» لديهم النفوذ الأقوى فيها، لا ينطبق على تصورهما للعلاج. أميركا تعتمد برامج الضغط والحصار والعقوبات بهدف الاحتواء ودفع الأعداء إلى التراجع والتنازل. بينما لا تعرف السعودية سبيلاً غير الإخضاع ولو بكلفة الدم والدموع.
وفق هذين المنطقين، يواجه لبنان اليوم أزمة جدية في تعامله مع الأطراف الإقليمية والدولية الكبرى. والمفارقة التي تربك حتى خصوم حزب الله أن المحور الأميركي ــــ السعودي هو صاحب المصلحة الملحّة في عدم الاستقرار اليوم. يرى الأميركيون أن الهدوء في لبنان مع انتظام سياسي واقتصادي وأمني، يستفيد منه حزب الله ليواصل معركته في لبنان والمنطقة. بينما ترى السعودية في استقرار لبنان إراحة لخصمها اللدود حزب الله. وتعتقد أن السبيل لمقاومته، هو في دفعه الى مواجهة تحديات داخلية تتجاوز فكرة العقوبات او العزل السياسي. وهنا تكمن المشكلة.
في زيارته الأخيرة لبيروت، حرص «سفاح المصارف»، مساعد وزير الخزانة الأميركية مارشال بيلينغسلي على التمييز بين ما هو مطلوب من الحكومة اللبنانية من إجراءات، وبين ما يفترض القيام به لإلزامها التقيد بهذه الإجراءات. كان المسؤول الأميركي واضحاً في القول إن النظام المصرفي في لبنان «نموذجي من حيث الامتثال للقوانين الأميركية» وإن «المسؤولين النافذين في القطاعين العام والخاص يلتزمون ولا يقاومون الإجراءات الأميركية حتى ولو عبّروا عن اعتراضات»، وإن «رجال الحكم لا يعرقلون فعلياً مسار الإجراءات المطلوبة أميركياً في مواجهة حزب الله».
هذا التوصيف، يستند إليه المسؤول الأميركي للقول بأن المطلوب ضمان استمرار تقيد لبنان بالإجراءات، لا الذهاب نحو إسقاط هذا النموذج. لأن البديل هو مسار فوضوي لا يمكن التحكم به كما هي الحال في سوريا وإيران. وفي تلك الحالة، سيكون من الصعب ضبط الأسواق المالية، بالإضافة الى مخاطر أمنية وسياسية واجتماعية على الانهيار العام. وما لا يقوله المسؤولون الأميركيون هو خشيتهم من أن يؤدي الانهيار إلى «سقوط لبنان كله في يد حزب الله وإفقاد خصومه القدرة على المناورة والتحرك».
على أن السلوك الأميركي لا يعني موافقة على السياسة العامة للدولة اللبنانية. واشنطن ترى اليوم أن رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه السياسي خصوم بالمعنى الحقيقي. وهي ترفض أي تواصل «فوق الضرورة» مع هذا الفريق. وتحرص على البعث بإشارات متنوعة وبأوقات مختلفة تقول بأنها «غير راضية عن سلوك عون وفريقه». لكن واشنطن تسعى مع الحريري الى مسار مختلف. هي ترفض مقاطعته، وتفضل الاستمرار في الضغط عليه ومعاتبته على عدم خوضه انتفاضة في وجه تحالف عون ــــ حزب الله، وهو ما يجعلها قاسية معه في بعض الأحيان. لكن واشنطن تهتم بأن يبقى الحريري في الحكم، لغياب أي ضمانات بأن من يخلفه سيكون أكثر تشدداً مع حزب الله. عدا عن كونها تضمن من الحريري الالتزام بوجهة اقتصادية ومالية ونقدية تناسب سياساتها، وهو أمر غير مضمون مع الآخرين.
على أن للسعودية رأياً مختلفاً، فالرياض كلفت سفيرها في بيروت بممارسة أعلى درجات التشدد السياسي. السفير وليد البخاري يافع في السياسة وممارس لثقافة فنجان القهوة، لكنه يعاني عوارض «الانتفاخ السعودي» في مقاربته للأحوال اللبنانية وأحوال المنطقة. على أنه منضبط ومنفّذ جيد لتعليمات قيادته. ومهمته واضحة في السعي لإفقاد حزب الله أي ورقة يستفيد منها في لبنان (تنشر «الأخبار» في اليومين المقبلين تصور السعودية لمقاومة حزب الله في لبنان ضمن ملف الوثائق السعودية السرية).
وفي هذا السياق، يتصرف السعوديون كما لو أن سعد الحريري بات عقبة أمام تنفيذ سياساتهم. المسؤولون وأركان السفارة لا يحبون الحريري، وهو يبادلهم الشعور نفسه، وتصله أخبار «الثرثرة» الدائمة ضده من زوار السفارة والسفير. وأكثر ما يعرفه الحريري، اليوم، ان الرياض غاضبة لكونه تمرد على قرارها بالتنحي قبل عامين، بعدما سبق أن أغضبها يوم وافق على أن يكون العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. وهي غاضبة منه لأنه ذهب بعيداً في تسوية مع جبران باسيل على حساب حلفائها المسيحيين، وأنه كان مستعداً لإطاحة «القوات اللبنانية» بعد الكتائب وقوى 14 آذار، وأن الحريري دخل مزهوّاً في مواجهة مع وليد جنبلاط عندما كان الأخير يواجه حزب الله، وأن الحريري لم يكن مضطراً للاعتراف بخصومه من السنّة الذين تعتبرهم السعودية أدوات بيد حزب الله. ثم زاد غضب الرياض من رئيس الحكومة لأنه فشل في إصدار مواقف سياسية وخطوات عملية ضد تدخّل حزب الله ودوره في سوريا والعراق واليمن؛ وأنه لم يفعل شيئاً لمنع التعرض للسعودية سياسياً وإعلامياً، وهو لم يجرؤ على مقاطعة قطر ــــ وأكثر ما فعله هنا، هو تمنّيه على زوجة والده نازك، عدم بيع عقار كبير (المقر السابق للسفارة السعودية في الروشة) للقطريين؛ وأنه يتجاهل ــــ بل يمارس القسوة مع ــــ رجال المملكة داخل تيار «المستقبل»؛ وأنه عندما أبعد ابن عمته نادر، لم يفعل ذلك بسبب تصرفات الأخير السياسية، بل اعتراضاً من سعد على إدارة نادر لمكتب رئيس الحكومة واتهامه باستغلاله لمكاسب مادية شخصية.
الأميركيون لا يريدون الانهيار التام، لكن الرياض لا ترى جدوى من استقرار يستفيد منه حزب الله وميشال عون
تتصرّف الرياض على أن الحريري بات عقبة، إن لم يكن خصماً. لكنها تعرف أن تجربة حجزه وإقالته لم تنفع في الحد من نفوذه وسط السنّة في لبنان. وهي لم تقدر على إبقاء فؤاد السنيورة نائباً في البرلمان، فيما تراجع حضور كل الشخصيات السنّية المتماشية مع سياساتها في الشمال والجنوب والبقاع وبيروت. عملياً، خضعت السعودية لواقع الأمر، لكنها لم تُعِد وصل ما انقطع مع الحريري. رفضت حتى اليوم إجراء مقاصّة وتصفية لوضع شركاته في السعودية. وها هي ديون «سعودي أوجيه» وفوائدها ترتفع أكثر مما يقدر الحريري على تحمّله. لم تُتح له الرياض بيع عقارات كبيرة في السعودية. لم يرفّ لها جفن وهو يقفل جريدة ثم تلفزيون «المستقبل» وقبلهما كل مؤسساته الاجتماعية. وأجبرته على الاستدانة لتمويل الانتخابات النيابية الأخيرة. ولم يعد رجال الأعمال في المملكة يتعاملون معه كما كانت الأيام الخوالي. وسفارات المملكة في الخارج التي كانت مفتوحة لوالده ليس له فيها سوى اتصالات عابرة. أما برامج دعمها المؤسسة الدينية في لبنان فلم تعد تمر عبره. وهي لا تتوانى عن دعم اللبنانيين المطرودين من جنته.
ومشكلة الحريري مع السعودية لا تقف عند هذا الحدّ. فهو يدفع أثماناً أكبر في كل الأندية والمجالات. بالأمس عندما بكى سعد الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك لم يكن يتقصّد أو يكذب. هو ينظر إلى أصدقاء والده يرحلون واحداً تلو الآخر. رجال الحكم الذين كان يعود إليهم عند الحشرة باتوا خارج النفوذ. لم يعد يوجد منهم أحد في السعودية ولا في مصر ولا في سوريا ولا حتى في فرنسا وأميركا. ما بقي من نفوذ لا يوفّر سوى لقاءات عامة، تحصل حصراً بصفته رئيساً للحكومة.
سعد الحريري يعاني الأمرّين، العائلة الكبيرة تفرّقت، وأعماله توقّفت عن ضخّ الأموال، وفريق عمله في بيروت في حالة بؤس شديد. ليس بينهم من يفيده في أمر كبير. حالة إفلاس شبه معلنة. يقوم بتصفية المؤسسات واحدة تلو الأخرى. لم يبقَ من الموظفين في تيار «المستقبل» أكثر من مئة شخص. وهو ليس بقادر على دفع تعويضات المطرودين. ومعظم ما يملكه من عقارات صار تحت يد المصارف، لأن الديون لم يتم سدادها. وكل ما يمكن له تحصيله من رجال الأعمال والمقربين، وحتى من داخل مؤسسات الدولة لا يتجاوز حتى اليوم سوى المساعدة على توظيفات المحسوبين عليه. وهو يتحسّر في كرسيّه، يرى مقرّبين وأزلاماً صاروا أغنياء، ولا أحد منهم مستعدّ لسداد دين صغير متوجب على زعيم أعلى من شأنهم، وأوصلهم إلى حيث هم وأغناهم بما جعلهم لا يحتاجون إليه الآن.
لكن كل ذلك لا ينفع. السعودية تريد من يساعدها على قلب الطاولة. وإلى جانب عزوف الحريري عن هذه المَهمّة (راغباً أو عاجزاً) فهي حاولت الاتكال على حلفائها لتعديل موازين القوى لكن من دون طائل. وما تبقّى لها من حلفاء «يسمعون الكلمة» لا يملكون التأثير الكافي لتغيير وجهة سياسية أو تعديل قرار رسمي أو تنظيم تظاهرة في الشارع. أكثر ما يقدر عليه وليد جنبلاط وسمير جعجع وبقايا المغرّدين من 14 آذار، هو حفلات تكريم وعلاقات عامة وبيانات. لكنّ أياً من هؤلاء لا يقوى اليوم على تحريك كرسي في قاعة الكبار. وإذا ما قرروا الخروج من جنة الحكم، يخشون أن يصيبهم ما أصاب الآخرين الذين انضمّوا الى صفوف المتقاعدين… فما العمل؟
ابن سلمان: ورثة الحريري يهربون بأموالهم وسعد يحتمي بأعدائنا في لبنان، فلماذا نعيد تعويمه؟
إلى الفوضى والفراغ… هذا السبيل أفضل للسعودية (كما يظنّ جهابذتها). وعملياً، تسعى الرياض اليوم إلى إجبار الحريري على الاستقالة من خلال برنامج الضغوط القائم، عبر دفع المحتجّين على سياساته إلى رفع أصواتهم أكثر، وحتى الاستفادة من تحركات على الأرض لشتمه. كل ما تريده السعودية من الحريري هو الرحيل. وكل ما تسعى اليه، هو نشوء الفراغ في لبنان، لأنها تعتقد بأنه في حال استقال الحريري، فسيكون صعباً على أحد تشكيل حكومة جديدة. فبديله لن يكون مقبولاً من حزب الله وعون، وبالتالي ستكون غالبية السنّة خارج الحكم. وستسعى الى ضمان موقف جنبلاط وجعجع لإفقاد الحكومة قواعد شعبية إضافية، وستدفع في اتجاه الفوضى بغية إدخال تغييرات كبيرة على الوضع السياسي.
السعودية تعتقد، ربما بنصيحة من رجالها اللبنانيين، أن الفراغ أفضل من حكم يصبّ في مصلحة حزب الله. هؤلاء السُّذَّج يتصرفون كما لو أن الفراغ سيتحول الى عبء على حزب الله وسيُنهي عهد ميشال عون. وبالتالي، فإن النقمة الشعبية ستفرض التغيير عند الجميع. وإذا كان التغيير ممكناً عند السنّة فسيكون ممكناً عند الشيعة. ولا داعيَ لتغييرات كبيرة عند الدروز والمسيحيين. السعوديون يقولون صراحة بأن البلبلة عند الشيعة والسنة كافية لقلب المشهد في لبنان، وهذا ما يجب أن يحصل.
السعودية جاءتها قيادة تكره كل عائلة الحريري. اليوم، يكشف «الدب الداشر» صراحة عن المكبوت: لم نحصل على أي مقابل من رفيق الحريري وعائلته. واليوم، نجد ورثته يهربون بأموالهم إلى بلاد العالم، فيما وريثه السياسي سعد يحتمي بأعدائنا في لبنان من ميشال عون إلى حزب الله. فلماذا نساعده، ولأجل ماذا نعيد تعويمه؟
«أبو راس»
يُطلق الرئيس سعد الحريري على النائب نهاد المشنوق اسم “ابو راس”. ويقصد بأن الأخير رأسه كبير، ولا يقبل أن يكون واحداً من مساعديه، بل يريد أن يكون منافساً له. الحريري يتهم المشنوق بأنه يقف خلف المقال الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” أول من أمس، عن ادّعاء عارضة أزياء من جنوب أفريقيا تلقّيها أكثر من 15 مليون دولار من الحريري في إطار علاقة حميمة بينهما.
وبرغم أن المقال يتضمّن معلومات سبق أن أُثيرت قبل سنوات، إلا أن الحريري يتهم المشنوق بأنه يسعى إلى تشويه سمعته في هذه المرحلة، في ظل معاناة لبنان أوضاعاً اقتصادية صعبة. ويقول مقرّبون من رئيس الحكومة: إن المشنوق ربما سمع كلاماً عن احتمال خروج الحريري من الحكم، وإنه يريد تولّي المسؤولية بعده، لأن لا مرشّحين من «المعتدلين».
كذلك يتهم فريق رئيس الحكومة “عصابات” موّلتها جهات معادية “من قلب البيت” لأجل إحراق صوره في طرابلس وتعمّد الإساءة إلى والده الراحل رفيق الحريري، وهي المرة الأولى التي يتم التعرض فيها إلى الأب منذ اغتياله قبل 14 عاماً. ويعمل فريق الحريري (من كل الاختصاصات) على التدقيق في «هوية» الذين شاركوا في احتجاجات الأحد الماضي، وما إذا كان هناك من يحرّكهم، علماً أن الحريري يأخذ على السعوديين أنهم يموّلون إعلاميين محسوبين على فريق 14 آذار من الذين يهاجمون رئيس الحكومة دائماً، وينتقدون ما تُسميه السعودية “خضوع الحريري لحزب الله». كما يتولّى مقرّبون من الحريري التواصل مع إعلاميين لتشديد الحملة على المشنوق مع بثّ أخبار شخصية عنه أيضاً.
خطأ قاتل
حذّرت أوساط سياسية معنية من “تقدير خاطئ وقاتل” قد يظهر في محيط الرئيس ميشال عون، بشأن واقع الحكومة واحتمال الإطاحة بالرئيس سعد الحريري من رئاستها. وجاء هذا التحذير على خلفية تكاثر المعلومات الواردة المنقولة عن مقرّبين من رئيس الجمهورية ووزير الخارجية جبران باسيل، حول ضرورة تغيير الحكومة إذا ما استمر الفشل حاكماً للسياسات العامة.
وبحسبما هو متداول، فإن هذا الفريق القريب من عون، يعتقد أنه في حال استقال الحريري، سوف تكون هناك إمكانية لتشكيل حكومة جديدة بمعايير مختلفة، وقد يسمح الأمر بإبعاد “القوات اللبنانية” نهائياً خارج الحكم، وكذلك إضعاف حضور وليد جنبلاط، وأن أيّ حكومة جديدة سوف تنطلق من آليات عمل مختلفة تُتيح تغييرات كبيرة في السياسات الاقتصادية والمالية. ويراهن هؤلاء على إمكان إبعاد رياض سلامة عن حاكمية مصرف لبنان، وبالتالي تغيير كل إدارات المؤسسات التابعة للمصرف المركزي، فضلاً عن إلغاء مجلس الإنماء والإعمار وبقية المجالس، وإعادة الاعتبار إلى الوزارات للقيام بدورها كاملاً.
من ملف : السعوديّة تريد رحيل الحريري… وعون: الحكومة غائبة عن الوعي