IMLebanon

سحب أموال سعودية من لبنان العام 1966: عندما كانت العروبة هي العدو

ليست المرة الاولى التي تستخدم الرياض سلاح المال كوسيلة لمعاقبة لبنان على خلفيّة سياسته الخارجية. فقبل أن تلغي المملكةُ «الهِبة» المكرّسةَ لتسليح الجيش اللبنانيّ، وقبل وجود تنظيمٍ اسمه «حزبُ الله» (1982)، بل قبل انتصار «الثورة الإسلاميّة» في إيران (1979)، وقبل مشروع «تصدير» الثورة الإسلاميّة إلى «المحيط العربيّ السنّيّ،» قبل ذلك كلّه، قامت جهاتٌ سعوديةٌ مقرّبة من العائلة المالكة بسحوباتٍ ماليّةٍ ضخمةٍ من الجهاز المصرفيّ اللبنانيّ في العام 1966. الفارق أنّ التذمّر السعوديّ سبّبتْه، آنذاك، عروبةُ لبنان «المفرطة،» لا «نقصٌ» مزعومٌ في منسوب هذه العروبة.

في الستينيات، كان الخلافُ على أشدّه بين الرياض والقاهرة على خلفيّة حرب اليمن، والمدِّ العروبيّ الاشتراكيّ الناصريّ، الذي حاولت الرياضُ تقويضَه عبر إنشاء حلفٍ إسلاميّ. تبنّى رئيسُ الجمهورية اللبنانيّ آنذاك، شارل حلو، سياسة الحــــياد (فلـ «النأي بالنفس» تاريخٌ عريقٌ في لبنان). أعرب العاهلُ الســــعوديُّ فيصل بن عبد العزيز عن حبّه لهذا الحياد، برغم ما اعتبره إســـــاءاتٍ من جانب لبنان. لم يرُقْ للملك التعاطفُ الإعــــلاميُّ والشعبيُّ في لبنان مع مشروع الوحدة العربيّة، لكنّه نفى أن يكون لنظامه أيُّ يدٍ في الأزمة.

لكنْ، وخلافًا لما صرّح به فيصل للإعلام، أقرّ مسؤولون سعوديون رفيعو المستوى للسلطات الأميركيّة، بحسب تقارير ديبلوماسيّة سرّيّة، بضلوع أطراف سعوديّة في عمليّة سحب الأموال التي سبقت الأزمة. أحدُ هذه التقارير الأميركيّة تحوي كلامًا منقولًا عن عبد الله بن فيصل، فحواه أنّ الأخير «غاضبٌ جدًّا من موقف الحكومة اللبنانيّة غيرِ الوُدّيّ تجاه السعوديّة،» وأنّه «ينوي اتّخاذَ إجراءاتٍ محدّدةٍ لفرض تغييرٍ» ما، بمساعدة بطريرك لبنان حينها، بولس المعوشي، الذي أعلمه أحدُ عاملي السفارة السعوديّة في بيروت بأنّ فيصل أمر بسحب 100 مليون ليرة من بنوك في لبنان، بما فيها بنكُ «إنترا». المعوشي، بدوره، أعرب لمراسل «كريستيان ساينس مونيتور»، جون كولي، عن نيّته بذلَ كلّ ما أوتي من نفوذ لإسقاط حكومة عبد الله اليافي، ولدفــــع رئيس الجمهوريّة شارل حلو إلى تبنّي سياسة أكثر وُديّةً… تجاه السعوديّة والولايات المتحدة، لا تجاه الجمهوريّة العربيّة المتحدة بقيادة جمال عبد الناصر.

قد يضعف التواترُ في نقل هذه المعلومات من صدقيّتها. غير أنّ ما أسرّ به مسؤولان سعوديّان رفيعا المستوى إلى السلطات الأميركيّة، على ما جاء في وثيقةٍ أخرى، يُعزّز من فرضيّة سحب الأموال. المسؤول الأول هو الأمير محمد بن فيصل، الذي كان يَشغل حينها منصبَ مدير مكتب تحلية المياه. فقد قال للمسؤولين الأميركيين في جدّة إنّه أوعز إلى رفاقه بسحب أموالهم من لبنان قبل اندلاع أزمة «إنترا»، وتذمّر من غلاء الأسعار في لبنان؛ وأضاف أنّ اللبنانيين يكسبون على حساب الآخرين، وأنّه لم يعد يريد الإقامة هناك. المسؤول الآخر هو محمد إبراهيم مسعود، مساعدُ وزير الخارجية السعودية آنذاك، والذي أقرّ في إحدى الوثائق بأنّ «سحوبات سعوديّة قد حصلتْ، وأنّها على الأرجح ساهمتْ في إغلاق «إنترا».»

الجدير ذكرُه أنّ واشنطن، برغم عدائها للمدّ العروبيّ الناصريّ، حاولتْ ثنيَ الرياض عن استخدام أموالها المستثمَرة في لبنان لمعاقبة الحكومة اللبنانيّة. لقد أدركتْ واشنطن أنّ فشل البنوك اللبنانيّة ليس في الصالح الجيوستراتيجيّ للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، ذلك لأنّ «نظام الاقتصاد اللبنانيّ الحرّ تفنيدٌ حيٌّ لتعاليم الاشتراكيّة العربيّة،» وأيّ اضطرابٍ في الاقتصاد اللبنانيّ سيشجّع كلَّ مَن يدعم هذه الاشتراكيّة ويعادي الولاياتِ المتحدة وحلفاءَها.

إثر هذه التنبيهات، خفّفت الرياضُ من حدّة ادّعاءاتها أنّ السحوبات كانت بدوافعَ سياسيّة. هكذا أعلن المسؤولُ الماليُّ الأوّل في المملكة، أنور علي، أنّ أرقام السحوبات مُبالغٌ فيها، وأنّ الكمَّ الأكبر من السحوبات أموالٌ كويتيّة، وأنّ لوم المملكة نتيجةٌ لإشاعاتٍ «مغرضةٍ وغير مسندة.» والحق أنّ أموالًا كويتيّةً طائلةً سُحبتْ فعلًا من بنك «انترا» قبيْل الأزمة، ونُقلتْ إلى بنوكٍ أميركيّة بعد ارتفاع الفوائد في الولايات المتحدة وقيامِ مدير بنك «تشايس منهاتن» (دايفيد روكفلر) بجولةٍ خليجيّةٍ لجذب هذه الاستثمارات. وهذا يعني أنّ السياسة وحدها لا يمكن أن تفسّر حركة الرساميل تلك، بل توحي أنّ السعوديين سعوْا إلى استثمار ارتفاع تلك الفوائد لتغليب وجهتهم السياسيّة. وقد تكون تلك سياستهم اليوم أيضًا في ظلّ تكاليف حرب اليمن والتقشّف الماليّ للمملكة.

لقد اختلفت طبيعةُ الصراع حول العروبة بين الأمس واليوم اختلافًا جمًّا، فاختلفت الدوافعُ والأهدافُ واستراتيجياتُ التنفيذ. في الستينيّات، نفت السعوديّة نيّتها العقابيّة، ولم تستخدمْ قنواتٍ رسميّةً لسحب أموال قدّمتْها على شكل هِباتٍ رسميّة، فهي لم تكن تملك موطئ قدم في الإعلام وبين النخب الحاكمة في لبنان كما هي الحال اليوم. لكنها، في الحالتين، لجأتْ إلى سياسةٍ كيدية عقابيّة عبّرتْ عن المنطق الزبائنيّ الذي يحكم علاقاتِها الخارجية. أخطرُ ما في الامر أنّها حاربت العروبة عندما كانت مشروعًا سياسيًّا ذا مضـــمونٍ تقدميّ وشعبيّ واشتراكيّ ومعادٍ للعدوّ الإسرائيليّ ومــــشاريع الإمبريالية الغربيّة، بينما تعيد حصرهــا اليوم بالعداء لإيران في سياق صراعٍ على النفوذ في المنطــــقة عندما باتت العروبة نفسها ـ في الأغلب ـ شعارًا خــــاويًا في قامـــوس مؤيّديها ومحط تشويه وتسطيح لدى معارضيها.