الهوس. هي الكلمة الوحيدة الكافية للتعبير عن نظرة النظام السعودي تجاه إيران. هوس بكل ما تعنيه الكلمة. لا سياسة خارجية للسعودية، بسحب الوثائق التي سرّبها موقع «ويكيليكس»، سوى عبر شراء الذمم لتلميع صورة المملكة، واللهاث خلف السياسة الإيرانية. لكنه هوس محفوف بالخوف. فلا جرأة لدى آل سعود على دفع أموال لساسة إيرانيين يعيشون في بلادهم، ولا شجاعة تسمح لهم بمحاولة شراء وسائل إعلام. لكن ذلك لا يحول دون اقتراح خطة لزعزعة الحكم الإيراني من الداخل
الهوس السعودي بصورة المملكة الإعلامية لا يوازيه إلا الهوس بتعقب النشاط الإيراني السياسي والثقافي والإعلامي في أربع رياح الأرض. هذا، باختصار، ما يخلص إليه التنقيب في «الوثائق الإيرانية» من «سعودليكس». هو هوس، بالمعنى المقصود للكلمة، لأن تصفح هذه الوثائق يقود الباحث سريعا إلى الإستنتاج بأن تتبع حركات طهران وسكناتها، كماً ونوعاً، من جانب الممثليات السعودية المنتشرة في دول العالم يتجاوز كل حدود المواكبة الدبلوماسية التقليدية المكلفة إياها السفارات عادةً.
فإذا كان طبيعياً ومفهوماً أن تعمد دبلوماسية المملكة إلى رصد الحراك الإيراني في دول تمثل «ساحة اشتباك» أو تنافس على النفوذ الإقليمي، كما هي الحال بالنسبة لدول مثل اليمن ومصر، فإن انسحاب هذا الأمر إلى دول كالأرجنتين وتايلند وجيبوتي، مرورا بباكستان وماليزيا والمكسيك، وصولا إلى ميانمار وتتارستان وبوركينا فاسو وغيرها، يشي بسلوك سعودي حيال إيران يذكّر بسلوكيات الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والسوفياتي: تنافس صفري بين مشروعين نقيضين، حدوده العالم أجمع.
على أنه مهما حاول المرء التعمّي، فلا يفيد ذلك في إخفاء حقيقة أن العنصر المذهبي يمثل علامة فارقة في التقارير الدبلوماسية التي تغطي بها سفارات المملكة الوهابية النشاط الإيراني في الخارج، حتى عندما يكون نشاطاً من صلب العمل الدبلوماسي التقليدي، مثل زيارة يقوم بها وزير الخارجية الإيراني إلى بوركينا فاسو لبحث العلاقات الثنائية والوضع في مالي. في هذه الحالة، تقرأ في التقرير الذي ترفعه السفارة السعودية حول الزيارة عبارات مثل «تحاول إيران التواصل مع المجتمع البوركيني الفقير، وخاصة أن هناك مسجدا للشيعة، وهناك معهد أيضا يدرِّس فيه المذهب الشيعي مدرسون من بوركينا فاسو تعلموا في إيران»!
وإذا كان «التقرير الإيراني اليومي» (عبارة عن جردة يومية لكل تناول رسمي أو إعلامي يأتي على ذكر السعودية في إيران، ولا يظهر في وثائق الخارجية السعودية أي أثر لتقرير مماثل من أي دولة أخرى في العالم غير إيران) العنصر الأكثر حضورا في نشاط سفارة المملكة في طهران، فإن ما لن يجده المنقّب في «سعودي ليكس» الإيراني هو وثائق «نمطية» من النوع الذي يتحدث عن دفع أموال لشراء ذمم أو استمالة ولاءات سياسية أو إعلامية.
نعم، سيعثر المرء على ما يعوض تلك النمطية السعودية التي لا مكان لها في دولة مثل إيران، وذلك ــ مثلا ــ من خلال مقترح منهجي لإثارة الفتنة الداخلية، بدرجة تصنيف «سري للغاية» ترفعه سفارة المملكة في طهران ردا على نشر صحيفة كيهان صورا «تدعي أنها صور تعذيب في المملكة». المقترح الذي يتبناه جزئيا وزير الخارجية، سعود الفيصل، ويحيله إلى الديوان الملكي بغية الاستحصال على موافقة «المقام السامي» عليه، يبين كيف أن على المملكة «استغلال ميزة تعدد الأعراق والملل والأديان في إيران لإبراز الإختلافات والسياسات القمعية التي تتبعها الحكومة الإيرانية في إخماد الكثير من الإضطرابات، بما فيها الإنشقاقات التي جرت بين التيارات السياسية والدينية ورموز النظام منذ الانتخابات الرئاسية عام 2009». يضيف تقرير السفارة كيف أن بالإمكان «تحقيق الهدف المرجو من خلال وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية لإبراز الوجه القبيح للنظام الإيراني والمشاكل والممارسات الإيرانية الخاطئة ضد الشعب الإيراني… ويمكن النظر في تنسيق وتوحيد الجهود بين دول المنطقة للحد من التأثيرات التي تحاول إيران إحداثها، وخاصة في ما يتعلق بدول مجلس التعاون، وذلك من خلال التالي:
- الإبقاء إعلاميا على حدة الأحداث التي حصلت في إيران لكونه يسبب قلقاً مستمراً للنظام.
- تسليط الضوء على تدخل إيران في الشؤون العربية.
- السعي لكسب قنوات واقلام خبيرة بالشأن الإيراني وعدم الإكتفاء بالإعلام السعودي.
- إيجاد قنوات تحليلية وإخبارية ناطقة بالفارسية موجهة للشعب الإيراني.
- الإستفادة من القنوات السلفية وتوجيه الدعاة إلى إيران لنقل الرسائل إلى داخل إيران إعلامياً وواقعياً.
- تكثيف اللقاءات مع زوار المملكة من المعتمرين والحجاج لنقل صورة عن واقع مشاهدتهم بما يفند مزاعم الإعلام الإيراني.
- الإستعانة بالمعارضة الإيرانية للحصول على المعلومات من داخل إيران بالإضافة لتوظيفهم في مواجهة المخطط الإيراني المرسوم للمنطقة إعلاميا وسياسياً».
بث الدعاة قد لا يحقق
أهدافه في ظل السيطرة المحكمة للنظام الإيراني داخليا
الفيصل، في تعليقه على المقترح المحال إلى الديوان الملكي يوصي بتبني البنود الأربعة الأولى، ويرى أن البند الخامس «قد لا يحقق أهدافه في ظل السيطرة المحكمة للنظام الإيراني داخليا وعدم سماحه بمثل هذا الأمر، فيما يرى أن البند السادس «يحتاج إلى المزيد من الدراسة في ظل سياسة المملكة الصارمة بعدم استخدام الحج لأغراض سياسية»، ويوصي بأن يكون تطبيق البند السابع، المتعلق بالإستعانة بالمعارضة الإيرانية «عن طريق رئاسة الإستخبارات العامة».
نموذج آخر عن الهوس السعودي بـ»الخطر الإيراني»، تجده في برقية صادرة عن سفارة المملكة بالقاهرة (يوم 21/1/2013)، التي تتضمن برنامج عمل مقترحا لتطويق «النفوذ الإيراني» في بلاد النيل. واللافت في هذه البرقية أنها ليست من بنات أفكار السفارة، بل كونها اختصارا لمقابلة أجراها «المفكر الكويتي» عبدالله النفيسي مع مجلة «الأهرام العربي» المصرية. مقابلة وجد فيها السفير ما يجب إبلاغ الخارجية به، ورأى فيها وزير الخارجية سعود الفيصل «تصريحات خطيرة» عن نية إيران احتلال مكة والمدينة، ضمّنها تقريراً رفعه إلى الملك عبدالله.
ويقترح النفيسي خطوات عملية منها «الإتصال بالرئاسة والحكومة والنخب المؤثرة وصناع الرأي لتوصيل هذا التوجس إليهم وتحذيرهم من الإنفتاح على إيران». ومن هذه الخطوات العمل على تكريس فكرة أن «إيران تختزن كراهية شديدة للعرب والمسلمين وتنشط المنظمات التابعة لها كحزب الله وحركة أمل الشيعية…». والنقطة السادسة والأخيرة في الوثيقة تسعى إلى توظيف الواقع اليمني المنقسم من خلال الترويج لخطورة الحوثيين الذين «استأجرت إيران لهم 3 جزر من جزر دهلك… وحولتها إلى مراكز تدريب في صعدة ثم ينقضون منها على صنعاء ويدخلون منطقة جيزان السعودية ويعيثون فسادا».
أما في اليمن، حيث «التوسع والإنتشار الإيراني يعد مثار قلق كبير» وحيث «عملت إيران خلال الفترة الأخيرة لكسب وتجنيد برلمانيين وإعلاميين ومنظمات وقادة أحزاب»، فإن مواجهة ذلك تقتضي، من بين جملة أمور، «توجيه الدعم لمواجهة التوسع الإيراني وذلك من خلال التركيز على دعم وسائل الإعلام ودعم إنشاء وسائل إعلام جديدة واستقطاب ودعم الكتاب الذي يعدون الأداة الهامة لمواجهة وتفنيد الأفكار الشيعية…».
وبالإنتقال إلى خارج الإقليم، يمكن للبرقية الصادرة من السفارة السعودية في بانكوك تقديم صورة إضافية عن الهوس السعودي بتطويق أي نشاط إيراني، حتى لو كان في أقاصي آسيا. وفيها إفادة عن «تزايد ملحوظ في توافد الإيرانيين إلى تايلند، الذين يدخلون إليها بشكل شرعي وغير شرعي عن طريق ماليزيا وكمبوديا… وتهرمي إيران من بعض هذه الأنشطة إلى زيادة الميزان التجاري مع تايلند… ومن ثم دمج العمل التجاري بالعمل الإستخباري ومنها يتحقق لها هدفان: الأول، إيجاد منفذ حيوي لها تجابه من خلاله الضغوط الدولية والحظر الاقتصادي المفروض عليها؛ والهدف الثاني ضرب المستهدفين من قبلها في هذه الدول». أما العلاج السعودي لمواجهة هذا التحدي فيكمن، بحسب البرقية، في «ضرورة تكثيف الأنشطة الدعوية بكافة أشكالها من إقامة المحاضرات والندوات والدورات التعليمية والتوعية وتثقيف الدعاة لمجابهة النشاط الشيعي المتزايد في تايلند وفي جميع دول جنوب آسيا».