Site icon IMLebanon

الإنقلاب السعودي على الإنقلاب اللبناني

الطاولات السياسية تُقْلَبُ الواحدة تلو الأخرى، بعنف واشتداد وتأزم، ومن خلالها تستمر عملية «قلب» لبنان، رأسا على عقب ، كيانا ونظاما ودولة ومؤسسات، وقد وصلت إلى حدود لم تعد تتماشى وتتماهى مع سياسات التخفيف والتلطيف وتمرير المخططات الكبرى على نار هادئة حينا ومستعرة أحيانا، متراوحة بين جلسات حوارية، استهلكت حتى الآن كميّات ضخمة من فناجين القهوة التي تناولها المتحاورون من فريقي تيار المستقبل وحزب الله حول طاولة الحوار لدى الرئيس برّي، وسط صمت مستمر حول التفاصيل الحوارية التي أثبتت حتى الآن، أنها مجرد تقطيع للوقت وتمرير للهجمة الإيرانية على المنطقة عموما وعلى لبنان بالتحديد، وصولا في المراوحة إلى خطابات التنديد والتحريض وتسعير لهيب الفتنة من خلال التصريحات والخطابات التي أطلقت مؤخرا وبينها هجوم غير مسبوق، لا على المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي فحسب، بل هي تناولت كل الدول ذات الطابع السنّي، والأخطر من ذلك كله، أنها قد وصلت إلى المسلمين السنة في المنطقة العربية عموما، وإننا نحجم في هذا المجال، عن تناولها بالنقد، حرصا منّا على منع أنفسنا من الإنزلاق إلى نيران تأجيج الفتنة المذهبية ولواحقها الخطيرة.

ويشهد لبنان اليوم إستمرارا للسياسة الإيرانية الطامعة بتحوير الوضع اللبناني بالكامل إلى أجواء ومطامع ومطامح إيران، وتم الإعتماد في ذلك على أسلوب مرن، حاول تمرير تلك المطامع بأقصى هدوء ممكن، وباستمرار المواقع المواجهة بتقديم جملة من التنازلات، وقد أفلح الساعون إلى الهيمنة على مرّ السنوات الماضية في الإستحصال على الكثير منها، خاصة من خلال تفريغ السلطة التنفيذية من أية قدرة لها على التحّرك، ومن خلال تحوير الواقع الحاكم وقضم صلاحيات رئيس الحكومة واختلاق حالة سياسية لا مثيل لها في أي من بلدان العالم، متمثلة في خلق فراغات في سلطات الدولة المختلفة وفي طليعتها رئاسة الجمهورية والسلطتان التشريعية والتنفيذية. أما السلطة القضائية، فحدّث عن اختراقاتها ولا حرج، ولنا في وضعية المحاكم العسكرية وقضية ميشال سماحة الفاضحة، خير مثال ودليل.

في ظل هذه الأحوال، إنفجرت جملة من الأوضاع الخطيرة في وجه لبنان، ولعل أهمها وأكثرها خطورة وأثراً، الانفجار السعودي الذي كان سببه ومنطلقه، موقف لبنان من خلال موقف وزير خارجيته في مؤتمري القاهرة وجده.

هذا الموقف الذي يمثل في الواقع، موقف حزب الله المنطلق بسلاحه وسطوته العسكرية والمادية والمعنوية في كل اتجاه، ممثلا خير تمثيل، المواقف الإيرانية، وهو موقف خرج فيه معالي الوزير الهمام جبران باسيل عن كل المقاييس القومية واللبنانية والأخلاقية وتجاوز حتى الموقف الإيراني الذي اعتذر عن مهاجمة السفارة السعودية وأقر بالمسؤولية الإيرانية عن هذا التصرّف المخالف لجميع القوانين والأعراف الداخلية والدولية، والغريب أنه تجاوز صمته طوال جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، ليصدر بعد انتهائه وصدور البيان الوزاري بيانا يرفض ما أجمع عليه مجلس الوزراء الرئاسي ذاكرا أنه مع الإجماع الوطني قبل أي إجماع عربي، وقد تجاهل «وزير خارجية حزب الله»، التساؤل عن الإجماع الوطني المطلوب بصدد مشاركة الحزب في الحروب الدائرة في الساحات العربية وفي طليعتها الحرب على الأرض السورية!!.

المملكة العربية السعودية أغضبها الموقف اللبناني وأغضبتها الإستكانة اللبنانية إلى سطوة السلاح والهيمنة الإيرانية، وأغضبها خاصة ذلك الجحود الذي رأت قيادتها الجديدة، قيادة الحزم والعزم، أن لبنان بوقوفه وحيدا فريدا ضد الإجماع العربي على إدانة ما حصل للسفارة السعودية في إيران بما يخالف ليس موقف البلاد العربية جمعاء في مؤتمرين مخصصين للتضامن معها بل وقوف العالم أجمع ضد هذا التصرف الهمجي، بما فيهم السلطات الإيرانية نفسها. لقد وجدت المملكة في هذا الموقف خروجا غير مسبوق على الإجماع العربي وموقفا غريبا على لبنان وسياسته التي انتهجها منذ نشأته. المملكة قد اغضبها بالتالي أن تكون ذاكرة بعض اللبنانيين ضعيفة إلى حد نسيان كل الأفضال التي لها على لبنان سواء منها ما قدمته بعد الإعتداءات الإسرائيلية على أرضه، خاصة في منطقة الجنوب والضاحية الجنوبية، وما عملت له من خلال مؤتمر الطائف لجهة إنهاء حالة الحرب الداخلية التي كانت قائمة وإعادة الحياة الطبيعية والدستورية إلى لبنان، إضافة إلى قراراتها بإيداع أموال طائلة لدى مصرف لبنان وقرارها بمنح الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي تمويلا بقيمة أربعة مليارات ليرة لبنانية تم شراء بعض السلاح بقسم منها وتم إلغاء بقية الهبة لما ذكرناه من الأسباب ولما لم نذكر قسما آخر منه، لأكثر من سبب وسبب.

لنقف بشكل خاص أمام خلاصة الغضب السعودي التي هزها التقاعس اللبناني عموما، وخاصة من قبل الجهات التي كانت تتوقع أن يكون لها غير تلك المواقف البعيدة عن التحرك الفاعل والرفض الواضح والصريح.

لقد فضحت تصريحات الحزب الأخيرة المقاصد السيئة التي صوبت نحو الحقيقة العربية للشعب اللبناني بأسره، أصلا وفصلا ومحتدا، هذا البلد نشأ عربيا واستمر عربيا وسيبقى وجهه العربي سيدا مشرق المعالم، رافضا للمحاولات الإيرانية الرامية إلى قلب سحنته العربية الصافية، والابتعاد بها إلى سحنة إيرانية فيها من الغرابة ودوافع الإستغراب والرفض، ما يرفضه تاريخ هذا البلد وجغرافيته وغالبيته السكانية ومحيطه العربي.

بعد اتضاح المواقع والمواقف ذات العلاقة بعروبة لبنان والحرب الضروس التي تسعى إلى قلبها رأسا على عقب، من خلال خلق انتماء لبناني مصطنع إلى حضارة أخرى فارسية التاريخ والمعالم واللغة والحضارة والمطامع، يتماشى جنبا إلى جنب مع المحاولات الإيرانية، الإنقضاض على المحيط العربي بدءا بالخليج وفي طليعته المملكة العربية السعودية، وبسط سطوتها على العرب على النحو المعلن من قادة إيران المتمثلين بمتطرفيهم المتلونين تارة بالسحنة الفارسية وطورا بسحنة مذهبية، آملين في هذا الظرف الحافل بالتوقعات المزعجة أن يكون الفوز حليفا للجهات الإيرانية المعتدلة التي ستخوض معارك انتخابية ضاربة في الأيام القريبة، باتجاه تصويب الأمور وإعادة المنطقة إلى سلمها وعلاقاتها الجيدة وتطورها الطبيعي من خلال قواعد المجتمع الدولي والأصول الديمقراطية، والإمتناع عن الإنخراط في مشاريع استعادة الإمبراطورية الفارسية وامتداداتها في المنطقة.