IMLebanon

الجنون السعودي

تتضارب الأنباء حول الإفراج عن الشيخ حسن فرحان المالكي، المعتقل لدى السلطات السعودية؛ نرجو أن يكون المالكي، أو يصبح، عمّا قريب، حراً طليقاً؛ فالشيخ يستأهل التكريم والتقديم، لا السجن، إذا كان حكّام السعودية، معنيين حقاً بمواجهة الإرهاب التكفيري. اعتقال المالكي يفضح هذه الكذبة؛ فحكم آل سعود لا يستطيع الاستمرار في الاحتفاظ بامتيازاته الخيالية إلا بمنهج التكفير والإرهاب والتحريض المذهبي؛ حتى أصبح حبّ الإمام علي… «جريمة».

المالكي واحد من العلماء السنّة في المملكة، ليس معارضاً ولا مشتغلاً في السياسة، إلا في مجال حقوق الإنسان. و«جريمته» أنه ممن يتعاطفون مع الشيعة في مواجهة ما يتعرضون له من تطاول وعسف، ويشيد باحتمالهم البلاء، بصبر، تحصيناً للرسول وأهل بيته. ومن هؤلاء، يرى المالكي، في الإمام علي بن أبي طالب، حكيمَ الإسلام، ويقترح حذف النصوص السياسية ـ وهي ثلاثة ـ من كتاب «نهج البلاغة» ـ ومن ثم تدريسه، لما يتضمنه من قيم إنسانية ورؤى كونية ومعرفة الخ.

صوتٌ كهذا، يسير في منحى إسلامي وحدوي وإنساني، ليس «صارخا في البرية»، وإنما يجد له أصداء لدى أوساط تتسع في المملكة السعودية، ما استوجب اعتقال صاحبه، في إشارة إلى قرار سعودي بقمع كل بادرة تلاقٍ فكرية بين السنّة والشيعة، تنجم عنها حركة إخاء ووحدة ومواطنة.

أطروحة المالكي المضيئة حول الإمام علي، تقابلها أطروحة المفكر العراقي الشيعي، حسن العلوي، في كتابه «عمر والتشيّع»؛ وفيه تعداد لمناقب الخليفة الثاني، وكشفٌ موثقٌ عن عمق الشراكة الفكرية والسياسية، بينه وبين الإمام علي، باعتبار الرجلين من الحزب المحمدي؛ فلم يتباعدا، ولم يتعارضا إلا في الهامشيات.

لا تنبع المذهبية من التخندق الديني الطائفي، وإنما من التخندق الاجتماعي ـ السياسي؛ فالوهابية لم تولّد إلا تعبيراً عن حاجة قبائل نجد إلى إطار ديني يسوّغ الغزو والنهب والاستيلاء على ثروات ومداخيل الحواضر، سواء أكانت شيعية في كربلاء والنجف، أو سنية في الحجاز. ومن سوء طالع شيعة شرق الجزيرة العربية، في الإحساء والقطيف، أن أرضهم تنطوي على معظم الثروة النفطية في المملكة، ما جعل من تهميشهم وقمعهم، مصلحة عليا لآل سعود، مخافة الشراكة أو التمرد أو الانفصال، أو تشجيع الآخرين على ذلك. ولعل العائلة السعودية، قد ندمت على رفض الملك عبدالعزيز، الإلحاح الوهابي ـــ قبل النفط ـــ على إبادة الشيعة في المملكة.

في بلاد الشام والعراق، كان لاضطهاد الطوائف غير السنية في العهد العثماني، أساس اجتماعي سياسي واضح؛ فأهل الحكم والتجارة والاقطاع، في المدن، وجدوا في التحريض الطائفي، وسيلة فعّالة لاستمرار سلطاتهم وامتيازاتهم على حساب الريف.

تقاليد العداء للشيعة والعلويين والمسيحيين الخ، ولدت، وتعمّقت، دائماً، في سياق اجتماعي سياسي، حقله السلطة والنهب، ليس، فقط، ضد طوائف «الأغيار»، الفلاحية ـ الحضرية، بل، بالأساس، لاستتباع الريفيين وكادحي الحواضر من السنّة.

وهناك مَن يفسّر التمرّد السنّي في «الربيع العربي» في سوريا والعراق، بالتحليل السابق معكوساً. وهو لا يصحّ بالنسبة لسوريا المنتظمة في دولة قومية علمانية مستقلة، ويصحّ بالنسبة للعراق الذي يحكمه الاسلام السياسي الشيعي منذ 2003، على أسس طائفية.

ولكن، هل كان ممكناً أن ينصرف الاحتجاج السني المشروع في المشرق، إلى حركات تكفيرية إرهابية، لولا التدخّل السعودي ـ الخليجي ـ التركي؟ كلا، فالتسنن المشرقي قد يتعصّب، ولكنه، عادة، لا يقرب من الدماء والخراب، ومقتلة 1860 في دمشق، ضد المسيحيين، حادث نشاز مؤقت، بتحريض عثماني وأدوات عثمانية.

الموجة الحالية من التحريض المذهبي والطائفي ترتبط بوصول أزمة النظام السعودي ـ الخليجي، إلى مفصل تاريخي يطرح ضرورة تغيير هذا النظام، جذريا، بما في ذلك إخضاع الريع النفطي لشروط التنمية والعدالة الاجتماعية والعدالة الإقليمية، المعبَّر عنها في شعار نفط العرب للعرب، والتي نسمّيها «حقوق الجوار النفطي». الأزمة الخليجية ـ الناجمة عن تناقضات: النفط والإفقار، احتكار السلطة والتهميش، التحديث والأنظمة القروسطية ـ ظهرت ملتهبة بمناسبة الانتفاضات الشعبية العربية لسنة 2011، والتي ردّ عليها الخليج بالتدخل السافر في سوريا والعراق، بينما وجدها إخوان تركيا، العثمانيون الجدد، فرصة للتمدد والهيمنة. على أن السياقات الاجتماعية ـ

السياسية للموجة المذهبية التكفيرية الحالية، لا تفسّر، وحدها، كارثة الظاهرة الإرهابية الدينية في القرن الحادي والعشرين، فالأوساط الدينية مشدودة، بطبيعتها، نحو التعصّب ورفض الآخر، ومزاج عامة المتدينين، يميل إلى التطرّف. ومن حسن حظ سوريا أن فيها قيادة علمانية تكبح ردود الأفعال الطائفية، كما أنه من حسن حظ لبنان، وجود حزب الله، بقيادة حسن نصرالله، الوطنية التي تضبط ردود الفعل الشيعية، وتدفعها نحو الاعتدال والانسانية والانخراط في المقاومة في مواجهة الصهيونية والإرهاب. في هذا المنحى، يمكننا أن نلامس أهميّة وجرأة وانسانية طروحات حسن المالكي ـ السنّي المحبّ للإمام علي ـ وحسن العلوي ـ الشيعيّ المحب للخليفة عمر بن الخطاب؛ ـ فهذه الطروحات الفكرية، تنصرف، سياسيا، في خندق المقاومة والدولة القومية المدنية التي تقوم على المواطنة، بغض النظر عن الاثنية والدين والمذهب.