تعتبر الدول الغربية المعنية بلبنان أن الجندي اللبناني يضاهي من حيث تدريبه وقدرته القتالية وتعامله مع الأسلحة الحديثة أفضل الجنود في جيوش المنطقة، وتعتبر أن قيادته نجحت حتى الآن في منع تعطيل عمله الوطني، وذلك بإجراءات وقرارات ومواقف أبعدته عن الانقسامات التي تعصف بالشعب اللبناني وهو منه، وحالت دون تحوّله طرفاً في الصراعات الحالية المحتدمة. ولعل أبرز موقفين حكيمين حفظت بواسطتهما القيادة وحدة المؤسسة العسكرية كانا في رأي الدول المذكورة الآتيين:
1 – اكتفاء الجيش بتنفيذ ما تيسّر من قرار مجلس الأمن الرقم 1701 الذي صدر بعد حرب إسرائيل على لبنان في 2006، وذلك بالتنسيق مع قوات حفظ السلام الدولية في الجنوب (اليونيفيل). ويعني ذلك أنه تجنّب تنفيذ القسم الصعب تلافياً لمواجهة مع “حزب الله” وشعبه لن تنجو منها “اليونيفيل”، وتلافياً لتعريض الجيش إلى هزّة ربما تؤثر على وحدته. وما تيسَّر هو “تنظيف” جنوب الليطاني من السلاح “غير الشرعي”.
2 – قيام الجيش بمكافحة “الإرهاب” ذي الصفة السنية في أكثر مناطق لبنان ومنها صيدا وبيروت وطرابلس وفي الشمال عموماً باحتراف ومهنية ودقّة، ونجاحه في إنهاء حرب طرابلس ذات الجولات التي فاق عددها العشرين، وفي إفشال عمليات إرهابية عدة بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية المتنوّعة، من دون تعريض وحدته للخطر في ظل الانقسام المذهبي الحاد في البلاد، وتبادل فريقي النزاع الحالي الاتهامات بالتغلغل في المؤسسات العسكرية والأمنية. وربما لو لم يكن الإرهاب الهدف الأول للجيش في هذه المرحلة، لكانت الوحدة المشار إليها تعرّضت لامتحان كبير، ذلك أنه صار مصدر خوف اللبنانيين كلهم.
انطلاقاً من ذلك تعتبر الولايات المتحدة، استناداً الى مصدر ديبلوماسي غربي مطّلع، أن تعرّض جبهة عرسال في البقاع الشرقي الى خرق ضيّق أو واسع ليس بالسهولة التي يتصوّرها أو يتمناها كثيرون. فالجيش المحترف مرابط هناك ويقوم باللازم وهو يمتلك كل ما يحتاج إليه من أسلحة، فضلاً عن أن هذه الدولة الأعظم تواصل مدّه بالأسلحة والذخائر اللازمة للصمود. كما أنه يحظى وفقاً لاستطلاعات رأي دقيقة وعلمية بتأييد 92 في المئة من الشيعة في لبنان وبنسبة تأييد أقل ولكن مهمة من السنَّة والمسيحيين. وهذا عامل مهم لبقاء معنوياته مرتفعة ووحدته قوية، كونها شريكة مع غالبية دول العالم في مواجهة هذا الإرهاب.
ألا يؤثر وقف المملكة العربية السعودية أخيراً هبة الـ3 مليارات دولار أميركي لتسليح الجيش على أدائه في جبهة عرسال واستطراداً في لبنان، حيث الجبهات كثيرة وإن نائمة حتى الآن؟ وهل تفعل واشنطن شيئاً لاقناعها بإلغاء قرار الوقف باعتبارها حليفة لها وحامياً؟
يستبعد الأميركيون استناداً إلى المصدر نفسه تأثّر جبهة عرسال لأسباب ذُكرت في بداية “الموقف”، ويؤكدون لمحاوريهم من لبنان الرسمي استعدادهم لبذل المحاولات اللازمة مع المملكة. لكن أحداً لا يستطيع توقّع نتيجة إيجابية الآن لأن غضبها شديد وهو يتصاعد في التصريحات الرسمية والمواقف الاعلامية والاجراءات العملية والتحريض. ولعلَّ ما قاله وزير الثقافة فيها الدكتور الطريفي قبل أيام يعبّر عن السبب الفعلي لغضبها، وهو أنها تساعد لبنان في كل المجالات وهو لا يقدّم لها أي مساعدة في المقابل. وتشير تصريحات عدة إلى أن السبب المعلن للغضب السعودي سياسي، وهو انفراد وزير الخارجية جبران باسيل بموقفين في جامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي معاديين للرياض في رأيها أو مواليين لطهران. لكن المعلومات المتوافرة تشير إلى سبب آخر للغضب لا يقل أهمية هو اقتناع المملكة بنفوذ مهم لـ”حزب الله” داخل المؤسسة العسكرية، ومن شأن ذلك الإمساك بلبنان كله، الأمر الذي يؤذيها إذ يفيد إيران في المواجهة الإقليمية الواسعة التي تخوض. وما يضاعف الغضب المذكور هو رضى أميركا بوقوف الجيش ومقاتلي “الحزب” جنباً الى جنب في عرسال والبقاع، وهو تالياً إسهام الأميركيين مع إيران مباشرة أو عبر الحزب وغيره في نشوء علاقة تنسيق وتعاون بين واشنطن وطهران قد تتمتّن لاحقاً، وخشيتها هنا هي أن يكون ذلك على حسابها.
في اختصار، يؤشّر ذلك كله إلى أن لبنان لا يزال يسير على “درب الآلام”. فدولته “تعيش على الآلات” لأنها في “كوما” ووحدة مؤسساته تحفظها الشطارة وأحياناً التشاطر والحربقة مع المصالح المتناقضة للقوى الاقليمية والدول الكبرى. ولذلك لا يمكن لأحد أن يتوقّع سلباً أو إيجاباً أو أن يجزم باحتمال ما.