IMLebanon

حوار المملكة والمملوك: تشرين آتٍ

من الطبيعي أن يُصابَ البعضُ بسلسلة من الصدمات بعد اللقاء بين اللواء علي المملوك والأمير محمد بن سلمان: أولاً لأنه لم يتوقع أن تقيم السعودية اتصالاً بنظام الرئيس بشّار الأسد أياً كانت الظروف. وثانياً لأنّ تسريب الخبر جاء من الجانب السوري لا السعودي.

تعمَّد الأسد تسريبَ خبر اللقاء، لا لتعويم نفسه عربياً فحسب، بل أيضاً لدقِّ إسفين بين السعودية وحلفائها العرب، ولا سيما المعارضة السورية، والإيحاء بأنّ السعودية قد تكون مستعدة لـ«بيع» حلفائها إذا تمّت أيّ صفقة بينها وبين الأسد… وإلاّ فلماذا لم تضعهم في أجواء اللقاء قبل حصوله، وهل كانت تفضِّل إبقاءَ الخبر خافياً عنهم لو لم يكشفه النظام عبر مصادره لصحيفة «صاندي تايمز» البريطانية؟

في أيّ حال، يجدر التنويه بأنّ السعوديين استقبلوا المملوك في ظلِّ خلط قوي للأوراق في الشرق الأوسط. فليس السعوديون وحدهم الذين اتخذوا خطواتٍ خارجة عن السياق، بل إنّ كلّ الأطراف الأساسية المعنية بالصراع، من إقليمية ودَولية، إنقلبت على مواقفها التقليدية وأعلنت خياراتٍ جديدة.

لكنّ غالبية هذه المواقف هي لمجرد المناورة وتمرير الوقت والاستحقاقات:

1- إيران الخارجة منتصرة بالإتفاق على النووي تبدو أكثرَ تواضعاً واستعداداً لمحاورة خصومها الإقليميين. هذا في الظاهر. وأما في الواقع، فهي تستعدُّ لترسيخ نفوذِها الإقليمي.

2- تركيا الراعية لـ«داعش» والمراعِيَة للأكراد، قرّرت الخروج عن السياق، فشنّت حرباً على «داعش» والأكراد معاً، وانخرطت مع الولايات المتحدة في نقاشٍ يتجاوز الحربَ على الإرهاب ليشملَ الملفَين السوري والعراقي. لكنّ تركيا لن تتخلّى عن ورقة التنظيمات المتطرِّفة إذا احتاجت إليها لتنفيذ أهدافٍ جديدة.

3- السعودية وحليفاتها الخليجيات، ولا سيما الإمارات العربية المتحدة، تخلَّت عن القطيعة مع النظام السوري، ولو شكلاً أو جزئياً. وبعد قطر، يبرز دورُ سلطنة عُمان كحلقة اتصال بين دول مجلس التعاون وإيران. لكنّ هذا التقاطع الاضطراري مع الأسد لا يعني التخلّي عن إسقاط الأسد في سوريا أو الاستكانة للحوثيين في اليمن.

4- روسيا تريد الظهور وكأنها تسوِّق لتسوية في سوريا تقبل فيها بتغيير الأسد. فهي تعرض طرحاً ينطلق من جنيف 1، ويقوم على الآتي: يُشرف الأسد على التحضيرات للمرحلة الانتقالية. وفي الهيئة الانتقالية يكون الأسد موجوداً من خلال ممثِّلين له، وتتمثَّل أجنحة المعارضة على اختلافها، باستثناء «داعش» والتنظيمات الرديفة التي تكون قد تلقَّت ضرباتٍ أضعفتها وتخلَّت عنها تركيا والدول العربية الداعمة.

وفي المرحلة اللاحقة، لا يُعطى الأسد الحقّ في الترشّح للانتخابات الرئاسية. ويتعهَّد الحكم الجديد بتبنّي نهجٍ ديموقراطيٍّ يراعي الاعتدال والحفاظ على الأقلّيات الدينية والقومية (العلويون والمسيحيون والدروز والأكراد وسواهم). لكنّ الروس، في أعماقهم، يرفضون تماماً تغييرَ الأسد.

5- واشنطن أعطت إشاراتٍ توحي بأنّ إسقاطَ الأسد ما زال هدفاً لها، لكنّ مواجهة الإرهاب أولوية. غير أنّ هناك لغزاً كبيراً يكتنف موقفَ واشنطن من النظام و«داعش» معاً.

في خضمّ هذه الباطنية، تمّ ترتيب اللقاء بين المملوك وبن سلمان. ولأنّ الانقلابات الظاهرة تتّسم إجمالاً بطابع المناورة والاختبار، يمكن أيضاً وضع اللقاء في سياق المناورة والاختبار للعلاقة بين الشقيقين اللدودين دمشق والرياض.

وفي رأي البعض، أراد السعوديون التزامَ الصمت عن اللقاء لأنهم يعطونه الطابعَ الأمني في الدرجة الأولى، لا السياسي. فالمملوك رجل أمن لا رجل ديبلوماسية. والأساس في اللقاء هو ترتيب الموقف من «داعش» ورديفاتها الإرهابية، وأما مستقبل النظام السوري فيحتاج إلى نقاشاتٍ طويلة تشارك فيها قوى المعارضة السورية. وليس للسعودية أن تتَّخذ القراراتِ عن حلفائها السوريين.

ومن جهةٍ أخرى، ارتأى السعوديون عدم إبلاغ الحلفاء باللقاء مع المملوك لخشيتهم من أن يؤدّي ذلك إلى إثارة الهواجس لديهم والاعتقاد بأنّ السعودية تتفاوض لترتيب صفقة على حسابهم. وهذا ما يريده النظام السوري من وراء تسريب الخبر.

فالأمير محمد بادَرَ إلى فتح القناة مع نظام الأسد بناءً على وساطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مباشرة، خلال زيارته موسكو في حزيران الفائت. فقد أقنعه بوتين بأولَويّة محاربة الإرهاب ومنع «داعش» والقوى الرديفة من إنشاء دويلات تهدِّد استقرارَ روسيا وتركيا والأردن ودول الخليج.

فكان جوابُ الضيف السعودي بأنّ بلاده تقدّر هذا الانفتاح الروسي وتقابله بالمثل. وللدلالة على ذلك، اقترح الأمير على بوتين أن يطرح بنفسه الشخصية التي ستقود سوريا بعد تغيير الأسد.

وهكذا، تقاطعت مصالحُ السعوديين والروس ودولٌ إقليمية عدّة على إضعاف «داعش». ولكن ماذا سيفعل هؤلاء إذا تمكنوا من إنجاز المهمّة، وجاء موعدُ الاستحقاق الحقيقي، كما هو مرجَّح، في تشرين الأول المقبل: مؤتمر جنيف 3 والتسوية على الأسد؟

على الأرجح، سيعود كلٌّ منهم إلى متراسه السوري: السعودية لمواجهة الأسد والروس لحماية ظهره. ومن هنا، يعتقد البعض أنّ المراهنة على لقاء المملكة والمملوك يجب أن تبقى ضمنَ حدودها الواقعية. فالأمور في خواتيمها لا في البدايات.