أوساط دبلوماسية خليجية تستعيد تجربة الهبات السعودية
عندما تمادى عهد الوصاية السورية في التورّط في النهب والصفقات والهدر وتوزيع المغانم، وصولاً إلى الاستيلاء على كميات هائلة من الأموال المخصصة لمساعدة لبنان على غرار مؤتمرات باريس المتعاقبة، والتي كرّست مليارات عدة من الدولارات لمجموعة من الاستثمارات والمشاريع والمساهمات المادية المباشرة أحياناً، وصل الأمر بالدول والصناديق المانحة في لحظة معينة إلى ما يشبه انفجار حالة غضب ضمن الجدران المقفلة. وتجلّت حالة الغضب هذه لاحقاً، في خفض قيمة المساعدات، والإصرار على المراقبة اللصيقة لكيفية صرف المبالغ المرصودة للمشاريع والاستثمارات “من البابوج للطربوش”، وهذا ما دفع النظام السوري إلى العرقلة، وزيادة الضغط على الرئيس رفيق الحريري، وتوجيه رسائل ملغومة لعدد من الدول العربية ولا سيّما الخليجية، وصولاً إلى التهويل عليها.
يتذكر نائب سابق كيف أن الرئيس سليم الحص استغرب ذات مرة كيف أن تلزيم الأوتوستراد البحري من صيدا في اتجاه صور، كلّف الكيلومتر الواحد فيه نحو أحد عشر مليون دولار، وتمّت ترسية الالتزام على شركة قاسيون السورية، في المقابل، لم تتجاوز كلفة الكيلومتر الواحد من الأوتوستراد بين بيروت وصيدا المليوني دولار.
وبعد رحيل الوصاية السورية، برز منطق المحاصصات والمقايضات، الأمر الذي ساهم في “تشليع” قوى 14 آذار بين متماهٍ ومتورط في هذا المنطق وبين رافض له. وذهب “التيار الوطني الحر” في التجارة السياسية على قاعدة تقاسم المغانم والمناصب.
ومع ذلك، كانت للمملكة العربية السعودية محاولة أخيرة لم يكتب لها النجاح، بتقديم هبات وصلت إلى ثلاثة مليارات دولار للجيش اللبناني، إضافة إلى مليار دولار للأسلاك الأمنية الأخرى ولغايات اجتماعية وإنمائية. لكن تبيّن بعد سداد الدفعة الأولى، كما تقول أوساط دبلوماسية خليجية سابقة، إن الأموال لم تذهب إلى حيث ينبغي بل إن بعضاً منها وصل إلى يد “حزب اللّه” عبر تحكّمه بمسارها وحيثيات صرفها، ما أثار غضب المملكة ودفعها إلى وقف سلسلة المساعدات على أنواعها، والاكتفاء بتقديم مساعدات محدودة نسبياً ذات طابع إنساني، لا تقدّم للدولة مباشرة، بل تصل عبر الهيئات والمنظمات الدولية المعنية.
ويلفت دبلوماسي عربي في بيروت إلى أن الرهان على مساعدات خليجية وحتى دولية للبنان، بهدف إعادة الإعمار كما في السابق، هو رهان خاطئ، لأن أي مساعدات في هذا الإطار باتت مرهونة بالواقع السياسي لتركيبة السلطة اللبنانية، لذلك، ليس في الوارد مطلقاً تقديم أي مساعدات يهيمن على صرفها وتوزيعها “حزب اللّه” أو حلفاء له أو أطراف يخضعون لابتزازه. وباتت مسألة المساعدات مرهونة بتغيير المعادلة السياسية اللبنانية، وانتظام المؤسسات والقرار السيادي للدولة. ويقدم الدبلوماسي نفسُه نموذجاً لهذا التوجه يتمثل بكيفية التعاطي مع النظام السوري منذ الثورة، في ظل أزمات معيشية مؤلمة أحياناً، على الرغم من محاولات النظام الدؤوبة لإبداء نوع من الاستقلالية عن إيران وسعيه إلى تحديد حركة “حزب اللّه” في مناطق النظام.