لا ينتظر ملف الرئاسة أيلول والحوارات المعلّقة على حبل الرسائل الفرنسية العبثية. ما تريده إيران من لبنان وعدم تراجع السعودية هما صلب المشكلة، قبل أن تفرج واشنطن عما تريده فعلياً من احتمال التواصل السعودي مع إسرائيل
انحسار الكلام عن ملف الرئاسة داخلياً لا يحجب حقيقة أنه أصبح شائكاً أكثر فأكثر، بعدما أصبح عالقاً في خضم التطورات الإقليمية. ورغم أن العيون شاخصة نحو أيلول، إلا أن المواعيد المضروبة لن تكون الأولى أو الأخيرة في روزنامة لبنانية لا تنتج حلولاً إلا ضمن تسوية أو حتى ترتيب بالحد الأدنى من التوافقات الإقليمية.
منذ ما قبل انتهاء عهد الرئيس ميشال عون، جرت محاولات عدة للبننة الاستحقاق وحصره في الأطر الداخلية. لكنها أُجهضت مع مرور الوقت، ودخول عوامل عدة بدءاً ببيان نيويورك والمبادرة الفرنسية لصياغة مشروع مقايضة بين رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة، وصولاً إلى لقاء الدوحة الخماسي. في جلسة 14 حزيران، سُجل سعي جدي من قوى المعارضة – ومعظمها مما كان يشكل 14 آذار – لكسر جمود هذا الملف وإعطائه البعد الداخلي، بتحقيق خرق أساسي فيه. لكنها لم تنجح في ذلك، لأن عرّاب المحاولة والتقاطع مع التيار الوطني، هو نفسه عرّاب عدم كسر الوضع الداخلي وإبقاء جلسة الانتخاب في إطارها المضمون، بموافقة الجميع.
جاء الاتفاق السعودي – الإيراني ليثير لدى بعض القوى المحلية احتمال حلحلة الملف الرئاسي، والانطباع بأن لبنان قد يكون وُضع على سكة الحل. ما اتّضح منذ توقيع الاتفاق في نيسان الفائت أن شيئاً من هذا لم يحصل، لا بل إن الاندفاعة في اليمن توقّفت كما حال الاندفاعة في سوريا. وبعد خمسة أشهر، لم يتبلور بعد موقع لبنان في الاتفاق بين الطرفين. ومع الخطوات الأخيرة التي سُجلت بين الرياض وطهران، تجدّد الكلام عن مساومات وعن ورقة تفاوضية تدور حول لبنان والرئاسة فيه.
ما يحدث هو العكس، لأن الرئاسة أصبحت عالقة أكثر فأكثر. فانتظار تداعيات الاتفاق يعطي صورة مختلفة عما يريده البلدان. في حين تدور ملهاة لبنانية، تتعلق بالحوارات الداخلية، رغم معرفة الجميع بأن كل ما يجري مجرّد تقطيع للوقت، لا أكثر ولا أقل.
لن تتخلى إيران ببساطة عن ورقة لبنان، لا بل إنها تقبض عليها بإحكام، ولن تكون الساحة اللبنانية بالنسبة إليها، كموقع أساسي في استراتيجيتها في المنطقة وعلى المتوسط، ملفاً للمساومة، ولا سيما في ظل ملامح دفع واشنطن إلى علاقات تطبيعية بين السعودية وإسرائيل، ما يجعل طهران أكثر إصراراً على التمسك بلبنان وموقعها فيه مع ما يعنيه في مشروع محاربة إسرائيل.
بدورها، لم تقل السعودية كلمتها النهائية في الوضع اللبناني. في المقابل فإن كل ما يُنقل عنها منذ المبادرة الفرنسية وحتى اليوم، ثبت أنه خاطئ، لأنها فعلياً لم تسلّم بأي تنازل في ما يخص لبنان، مهما كانت قراءة خصومها وحتى بعض حلفائها. وقد دلّت التجربة في لقاء الخماسية، رغم فتح باب الحوار مع سوريا، أنها لم تقدّم لبنان كصفقة في الحوار الدائر مع إيران. وفي حوارات متشعّبة، سابقة وحالية، ظلت على موقفها من مواصفات رئيسَي الجمهورية والحكومة ووزرائها، وهذا ليس تفصيلاً ولا يعبر عن أي احتمال ولو كان ضئيلاً بمساومتها. وحتى الآن لا يزال موقفها هو نفسه منذ أكثر من سنة.
ولأن الملف عالق، يمكن التوقف عند أمرين: الأول، يتعلق بموقف الولايات المتحدة، سواء من الاتفاق أو من خلال دفعها إلى علاقات سعودية – إسرائيلية. فقبل اتّضاح حقيقة ما تفعله واشنطن، ولا سيما في الملف الثاني الأكثر خطورة نظراً إلى انعكاساته المتشعّبة، لا يمكن للسعودية التقدم خطوة إلى الأمام. والأهم أنه لا يمكن لإيران كذلك أن تحسم خياراتها نهائياً في تحقيق توازن بين متطلباتها الأمنية والاقتصادية والسياسية في منطقة صار متقدّماً فيها التواصل بين دولها وإسرائيل. والمشكلة أن موقف واشنطن لا يزال متحفّظاً في إظهار كلّ النوايا المتعلقة بالتقديمات والتسهيلات التي يمكن أن تتبع مثل هذا التواصل الذي تترقّبه عواصم المنطقة. وهذا يعني إيران لأنه يشكل بالنسبة إليها ركيزة أساسية في تعاملها مع الاتفاق ككتلة واحدة أو متجزّئة. ولن يكون لبنان كحالة سوى انعكاس لهذا الترقّب.
الأمر الثاني هو أن لقاء الخماسية الذي حدّد مساراً جديداً للأزمة الرئاسية زاد تعقيد المشكلة، في وقت لا تشارك إيران فيه، بعدما أصرّ على تحديد مسبّبات الأزمة ومستقبلها بما لا يتوافق مع رؤيتها. لكن، في المقابل، فإن الخماسية لا تملك خريطة طريق، إذ أظهر اللقاء أن مواقف القوى الأربع غير قطر لا تزال مبهمة. الدوحة وحدها حتى الآن أوضحت موقفها المؤيّد لانتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون، في حين لا تملك الدول الأربع سوى الفيتو حتى الآن، من دون أي برنامج عمل تفصيلي بالاسم أو ما يحيط برئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة لحل الأزمة ككل. وكما يُنتظر موقف واشنطن من مستقبل العلاقة السعودية – الإسرائيلية، يُنتظر كذلك موقفها من خيار الرئاسة الذي لم تفصح عنه. وقد يكون من المبكر استخلاص أي توقّعات مبكرة، لأن واشنطن فعلياً تغرق في مسارات أخرى في المنطقة، لم يُعرف موقع لبنان منها بعد، ما يجعل ورقة الرئاسة محتجزة إلى أن يحين وقت الإفراج عنها. ولا يبدو أنه موعد قريب.