إنّه كانون، وفي عزّ البرد اكتسى الحوار السعودي – الإيراني رداءً إسلاميّاً، تمهيداً وتوطئةً لرداء مسيحيّ، على أن يخيط من الرداءين عباءةً وطنيّة تُظلّله بالطمأنينة، والوطن بالدفء. لم يكن ممكناً لقاء عين التينة لو لم تكن هناك إرادة سعوديّة – إيرانيّة مصمّمة. بالطبع لا يمكن إنكار جهود رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، لكنّ السرّ يكمن في كلمة السِر، أو ما بات يُعرَف بـ«الوحي الخارجي»، وهو سعوديّ – إيرانيّ الهوى، بـ«هوية» أميركيّة – أوروبّية لا يمكن التنكّر لها.
بدأ الحوار إسلاميّاً، على أن يُستكمل مسيحيّاً. لقاء الدكتور سمير جعجع والعماد ميشال عون هو الوجه الآخر لعملة واحدة. جعجع في قلب المحور السعودي، وعون في قلب التحالف مع الحليف الإيراني. لقاؤهما – عند حصوله – يوازي لقاء «المستقبل» و»حزب الله». خطّان سيلتقيان في محطة ما غير بعيدة، ليشكّلا فريقَ عمل واحداً، تنضمّ إليه كلّ الأطراف والفاعليات للعمل معاً على إعادة ترتيب البيت اللبناني.
كانت المعادلة: «الطبع يغلب التطبّع»، أصبحَت: «التطبيع يغلب الطبع»، ومَن لا يصدّق فعليه أن يتمعّن جيّداً كيف أنّ رجل البيت الأبيض يُدخّن السيكار الكوبي الفاخر هذه الأيام بنَشوة. تحكّم «الطبع» الإستعلائي بالعلاقات الأميركيّة – الكوبية خمسين عاماً من العقوبات والكيديات والعزل والتهميش، وفي النهاية انتصرَت إرادة الخير، وكان لا بدّ من التطبيع، حيث تكمن المصلحة المشتركة، والفوائد العميمة.
فهمَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرسالة. لا يمكنه أن يذهب بروسيا إلى المعتقل الذي تخرج منه كوبا. دفع بالانفصاليين إلى طاولة الحوار مع الحكومة الأوكرانيّة، لا يمكنه الذهاب بالتطرّف إلى الأبعد، العقوبات تتوالى عليه من كلّ حدبٍ وصوب، تشتدّ من حوله، وتُضيّق عليه الخناق حتى الاختناق. النفط لا يرحم، أسعارُه تتهاوى وتتهاوى معه العملة الروسيّة، الخسائر تتراكم، الديون تتعاظم، الإحتياط يتبدّد، الأسباب الضاغطة تتكاثر كالفطر، ولا بديل إلّا بتغليب التطبيع على الطبع القيصري.
تعدَّدَت الأغراض التي أملَت زيارته إلى أنقرة، وأحدُها النظر مع الرئيس رجب الطيّب أردوغان بمنظار واحد إلى الوضع السوري. الدعوة إلى «موسكو – 1»، لا يمكن أن تتمّ من جانب واحد، ولا بدّ من مشاركة الولايات المتحدة، وتركيا، وإيران، والسعوديّة، وسائر الدوَل المؤثّرة. وإلّا فإنّ النتيجة معروفة سَلفاً. يتحرّك بوتين للإفلات من العقوبات، لا يستطيع الاقتصاد الروسي تحمُّلَ أوزار الحروب بالجملة والمفرّق.
العودة إلى الحرب الباردة لرسم ثنائيّة مستقطبة تؤدّي إلى سقوط عروش وانهيار دوَل. قالتها المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل صريحةً: «بعد سقوط جدار برلين، لا يمكن لموسكو أن تبنيَ جدراناً أخرى في قلب أوروبا؟!»، وبالتالي لا بدّ للقيصر الروسي من أن يُغلّب التطبيع، على الطبع القيصري.
والمصالحات التي تروّج لها السعودية منذ مدّة، ليست ببعيدة عن هذا المناخ الإقليمي – الدولي. لقد فهمَت الإشارات، وارتضَت تغليبَ التطبيع على «التأنيب». وافقَت بدايةً على سَحب السفراء الخليجيّين الثلاثة من الدوحة، وكادت أن تُصعّد، قبل أن تنتصر الحكمة ويقود التروّي والتبَصُّر إلى تغيير السلوك والمزاج، والسعي إلى تحصين البيت الخليجي بدلاً من تشريع أبوابه أمام الرياح الخارجيّة العاتية للعبَث بمحتوياته. وتكرّسَت المصالحة في قمّة الدوحة التي شاركَ فيها الملوك والأمراء الخليجيّون.
طاوَلَ هذا المدّ العلاقات المصريّة – القطريّة، برعاية العاهل السعودي الذي سعى إلى فتح صفحة جديدة بين البلدين. ويأتي الحوار ما بين تيار «المستقبل» و«حزب الله»، كامتدادٍ لمناخ المصالحات، والحَدّ من الكيديات والتشنّجات، إلّا أنّ الرصاصة التي انطلقت حديثاً من المحكمة الدولية قد تكون قاتلة، إذ ليس سهلاً أن توَجَّه أصابع الاتّهام إلى شخصيّة بارزة في الحزب، وفي هذا التوقيت بالذات. الأيام المقبلة ستحكم على قدرة التجربة الحواريّة ومتانتِها، لأنّ أحدَ أبرز أهدافها العودة من الداخل السوري إلى البيت اللبناني.
بعد أربعة أعوام من العنف، يتّجه المجتمع الدولي إلى إنهاء «الوضع المتعفّن» في سوريا، إنطلاقاً من وقف «الترانزيت المسلّح»، سواءٌ عبر البوّابات التركيّة، أو اللبنانية، أو العراقيّة – الإيرانية. والمطلوب تخفيف التشنّج المذهبي، وعندها يبدأ الحوار الجدّي المنتِج.