على الطريقة اللبنانية المألوفة يقرأ الأفرقاء المتنازعون الحدث الإقليمي بلغتين مغايرتين، ويقاربان التشخيص بتباين، وينتهون إلى منطق طبيعي هو خلاصات متناقضة متباعدة. لكل منهم اجتهاده في التفسير يفترض أنه سيصب في مصلحته ويستفيد منه، ويقوّض وجهة النظر المعاكسة
على نحو ما اعتاده الداخل اللبناني وهو يتلقف أخيراً إعلان المصالحة السعودية – الإيرانية برعاية صينية، راح يبحث عن البذار اللبنانية فيها كي يتوقع الثمار. ذلك ما رافق في ما مضى تقييم الحرب السورية وبعدها الاتفاق النووي مع إيران عندما وقّع ثم عندما تداعى، كذلك في السنوات الأخيرة معاودة مفاوضات الاتفاق نفسه فتعليقها. أقرب الأحداث الملبننة كان اللقاء الخماسي في باريس. كل حدث إقليمي في جوار لبنان، أو معنية به أصابع دول تمسك بعنقه، ملبنن بالسليقة. لذا نُظِرَ إلى مصالحة الرياض وطهران في الداخل اللبناني على أنها جزء محتمل في سلسلة التداعيات المفترضة للحدث الإقليمي. منذ اندلاع الحرب اللبنانية كانت حلولها تنتظر الانتخابات الرئاسية الأميركية ولاية بعد أخرى، والانتخابات الرئاسية الفرنسية والانتخابات الإسرائيلية وكذلك النزاعات العربية – الإسرائيلية، وفي الحسبان أنها ستأتي بحل إلى لبنان. في السنوات القليلة المنصرمة عُلّق لبنان على خشبة اليمن، بالتزامن مع تعليقه على خشبة سوريا على أن نظامها إما سينهار أو سينجو. هكذا قراءات اللبنانيين المتناحرين. تبدأ من نقطة مشتركة، كلما تقدم التأويل والتفسير فيها انفصل الخطان واحدهما عن الآخر وصولاً إلى التعارض.
بإعلان المصالحة السعودية – الإيرانية قيل للفور إنها ستقود الاستحقاق الرئاسي المجمد على طريق الحل، وكلٌ توقّع الحل الذي يبصره هو بالذات. مع أن الخلاصة هذه توحي بأنها واحدة، تحمل في واقع الحال كل التناقض والتنافر حتى قبل أن تتأكد العاصمتان الإقليميتان الكبريان من أن مصالحتهما ستنجح بالفعل في خلال الشهرين المقبلين. راحت مواقف الداخل اللبناني تتبارى في أيهما تحْرز قبل الأخرى، وتدور من حول معضلة واحدة باتت تختصر انتخابات الرئاسة اللبنانية: يُنتخب سليمان فرنجية رئيساً أم فقد الآن حظوظه كلها
على نحو ذلك يُقَارَب الحدث الإقليمي وتداعياته في الداخل اللبناني ويتحرك من حول كلٍ من الفريقين المواليين لكل من الرياض وطهران على أنه هو سيكسب الجولة الأخيرة في الاستحقاق الرئاسي. بالتأكيد فإن أياً منهما لا يسعه الجزم في ما سيجنيه لبنان من المصالحة تلك في ما بعد أو لا يجنيه أبداً. مع ذلك تراوح المعطيات المحلية مكانها في التأكيد مرة تلو أخرى أن لا انتخاب للرئيس في وقت قريب:
1 – بينما تتمسك الرياض بهدف معلن هو إضعاف إيران في سوريا ولبنان، تتمسك طهران بقبضتها المتشددة على لبنان والرخوة إلى حد على سوريا بفعل الوجود الروسي فيها. ما يتقاطع الأفرقاء المحليون عنده فكرة جوهرية هي أن اجتماع المصالحة لم يكن ليبصر النور لو لم يُحْرَز تقدم أساسي ومهم في معالجة مشكلة اليمن بين الفكين السعودي والإيراني. الدولة التالية المعنية بسلم الأولويات هي سوريا التي تقترب منها المملكة دونما أن تنفصل عنها الجمهورية الإسلامية. مع أن المصالحة أعادت الروح إلى العلاقات الثنائية بين البلدين وبدأت تقليص وطأة التوتر السنّي – الشيعي في المنطقة المستعر من جراء تنازعهما، بيد أن غير المعلن في المصالحة لا يقل أهمية عن المعلن.
2 – بينما يجزم المحيطون بفرنجية أنه لن يترشح هذا الأسبوع، لا يسع مناوئوه إلا أن يعدّوه مرشح حزب الله قبل أن يكون مرشح الثنائي الشيعي. وهو سبب كاف كي تنشط كل أسباب معارضته والحؤول دون وصوله إلى الرئاسة، وإن يبدو أفضل المرشحين حظوظاً لتمتعه بدعم كتلة وازنة هي الثنائي وحلفاؤه لا تزال مع ذلك عاجزة عن ترئيسه. أول مَن دل على أوصافه قبل اسمه كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ثم أفصح رئيس البرلمان نبيه برّي عن الاسم، ثم انضم نصرالله إلى ما قاله برّي. مقدار التصاق فرنجية بسوريا والرئيس بشار الأسد لم يُقل مرة إنه مرشح إيران ولم يُعرف عن علاقة سياسية تجمعه بها كالعلاقة العقائدية التي تجمع حزب الله بها. ينظر خصومه إلى ترئيسه على أنه المصدر المثالي لوطء قدم سورية مجدداً في لبنان بالتزامن مع ما يمثله حزب الله لإيران في لبنان.
المفارقة غير المعلومة والمصادفة في هذا التوقيت بالذات، وإن هي لا تزال تجرجر أذيال الحرب والعداوات على أراضيها والأبواب العربية نصف المفتوحة، استعداد دمشق مجدداً للدخول على خط الاهتمام بالداخل اللبناني بعدما كانت عهدت بدورها كله مذ أجلت قواتها عن لبنان عام 2005 إلى حزب الله. أخيراً عيّن الأسد السفير السوري السابق في لبنان (2009 – 2022) علي عبدالكريم علي مسؤول ملف لبنان. الديبلوماسي السوري عاد إلى وزارة الخارجية وأضحى معنياً، من خلال شبكة الاتصالات التي أنشأها طوال 13 عاماً، بالوضع اللبناني والبقاء على تواصل مع أصدقائه اللبنانيين وتبادل الآراء والمعلومات. ذلك ما يضفي على الاستحقاق ثم في مرحلة ما بعد انتخاب الرئيس – أياً يكن – أهمية خاصة.
الأسد عيّن علي عبدالكريم علي مسؤول ملف لبنان في سوريا
3 – بينما يواجه ترشيح فرنجية معارضة مسيحية من الكتلتين الكبريين وهما التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، وهو سبب وجيه لتعثر انتخابه سواء توافر له نصاب الثلثين أم لم يتوافر. تقاطُع الكتلتين عند رفض فرنجية ومناوئة انتخابه لا يقلل من نقطة ضعف أساسية تواجهها الكتلتان معاً أو منفردتين: ليس لكل من رئيسيهما النائب جبران باسيل وسمير جعجع مرشح بديل يواجه فرنجية، ولا مرشح واحداً ضده يدعمانه معاً. تتوقف سلبيتاهما عند منع انتخابه دونما التمكن من العثور على بديل أو منافس له على الأقل. في الأيام الأخيرة استعارا اللعبة المعتادة لحزب الله في استحقاق 2014 – 2016 والاستحقاق الحالي وهي منع اكتمال النصاب القانوني، إذاً العدوى تنتقل إلى الكتلتين المسيحيتين. لم يعد حزب القوات اللبنانية يؤمن بجدوى اللعبة التي كان السبّاق إلى مباشرتها منذ الجلسة الأولى للانتخاب في 29 أيلول بترشيح النائب ميشال معوض كي تفضي إلى الإلغاء المتبادل لفرنجية ومعوض في آن. يلتقي جعجع وباسيل الآن على الحؤول دون تمكين فرنجية من الفوز بأي من نصابيْ الثلثين والأكثرية المطلقة بلا مرشح منافس. ثمة تمييز بادٍ بينهما: يخوض جعجع في الاستحقاق الرئاسي مواجهة مزدوجة ضد حزب الله الأصل وفرنجية الفرع، فيما يميز باسيل خصومته لفرنجية عن خلافه مع حزب الله.