توقّفت مراجع ديبلوماسية بكثير من الاستغراب أمام التفسيرات المتسرّعة التي أطلقها اللبنانيون حول التفاهم السعودي ـ الايراني وتردداته المحتملة على خلفية رغباتهم متجاهلين كثيراً من الحقائق التي تدعو الى التريّث في انتظار ما يمكن أن يحظى به لبنان من «كعكة» التفاهم. وهو أمر ينسحب أيضاً على الحراك الدولي الذي عبّر عنه اللقاء الفرنسي – السعودي في باريس. وعليه، كيف يمكن لبلد مكبّل بالمواقف الداخلية المتشنجة أن يواكب هذا السباق الدولي نحو التفاهمات؟
ليس سهلاً على اي محاور ان يبرّر امام أيّ من الديبلوماسيين الأجانب المعتمدين في لبنان ما تشهده الساحة اللبنانية من مواقف تتصل بالاستحقاق الرئاسي في ظل التفسيرات السطحية المتبادلة في الأندية السياسية للتفاهم السعودي ـ الايراني وما يمكن ان يؤدي اليه التطبيق السريع لمقتضياته في المرحلة الأولى الفاصلة عن تبادل البعثات الديبلوماسية في مهلة أقصاها العاشر من ايار المقبل، ليثبت طرفا التفاهم مدى التزامهما العميق بمهلة الشهرين التي قطعت في «وثيقة بكين» قبل الانتقال الى مرحلة ترجمة الاتفاقات الاخرى المتصلة بساحات النزاع بين الدولتين من دون إغفال أدوار حلفائهما المنخرطين في النزاع بينهما في أكثر من أزمة اقليمية ودولية.
وقبل الدخول في التفاصيل المتصلة بالوضع في لبنان والتوقيت المحتمل لبلوغ التفاهمات المعقودة ما يجري في لبنان من مجموعة الأزمات التي يعانيها، جدّدت المراجع الديبلوماسية إشارتها الى ضرورة التريّث حتى تنجلي التحركات المكثفة التي بدأها طرفا التفاهم قبل الحكم على المراحل المقبلة. فهناك كثير يُقال في مختلف الملفات التي شكّلت وما زالت موضوع نقاش بينهما وهي متشابكة الى درجة كبرى ولا يمكن الحسم في مستقبل اي منها قبل فكفكة العقد المتعددة قياساً على حجم وأهمية كل منها.
وقالت هذه المصادر انّ هناك محطات لا بد من عبورها، فقبل القراءة النهائية لمستقبل الوضع في لبنان او في اي منطقة تشهد نزاعاً بين الطرفين هل يمكن لأيّ كان الحكم على ما ستكون عليه المواقف النهائية قبل ان تعقد القمة السعودية ـ الايرانية التاريخية بين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي التي كشف عنها قي الساعات الماضية لمجرد توجيه العاهل السعودي الدعوة الى نظيره الايراني طالباً اليه عقدها في أقرب فرصة، في وقت كان الحديث مُنصبّاً عن التحضيرات الجارية للقاء يجمع وزيري خارجية البلدين فيصل بن فرحان وحسين امير عبد اللهيان اللذين ألقيت عليهما مسؤولية ترجمة الخطوات اللاحقة لـ»تفاهم بكين» بعدما ادرج هذا اللقاء في متن البيان الختامي للمفاوضات بين الطرفين.
والى هذه المؤشرات التي تتحدث عن وجود قرار بتسريع المراحل المتفاهَم عليها، ينبغي، في رأي المصادر الديبلوماسية عينها، البحث عن مجموعة الوثائق السرية المتبادلة بين الطرفين، بما فيها من لائحة الالتزامات والتعهدات المتبادلة والتي لا بد من ترجمتها تباعاً وبخطوات عملية كتلك التي انطلقت في الأيام القليلة التي تلت التفاهم. وإن بقيت بعض التفاهمات سرية جداً وملكاً لعدد قليل من المعنيين بما تحقق، فإنّ اهميتها قيست بردات الفعل التي عبر عنها الاستنفار الإقليمي والدولي لتعقبها والبحث عنها. فلا يعقل انّ ما تم تحقيقه في مفاوضات توزعت بين بغداد ومسقط في سلطنة عمان على مدى عامين قبل مفاوضات بكين محصور بما تضمنه البيان الختامي المختصر وباللقاءات العلنية التي بدأ التحضير لها.
فالمحادثات كانت متشعبة ومعقدة على ما كشف عنه وزير الخارجية الايرانية الذي قال ان المفاوضات كادت ان تتوقف، وان جلسات الحوار الاخيرة التي عقدت في بغداد وسلطنة عمان رسمت صورة قاتمة عن مصيرها قبل ان تنفرج في بكين بطريقة سحرية نتيجة ما سمّاه حرفياً «الاقتراحات التي تقدم بها الرئيس الصيني التي تم قبولها من قبل قادة البلدين». ومما لا شك فيه انها شملت بالاضافة الى العلاقات الديبلوماسية بين البلدين طريقة مقاربة الطرفين للازمات بينهما على تعددها، ومهما كانت المواقف منها متنافرة فلا بد من التوصل في النتيجة الى قواسم مشتركة تتعدى مسألة إثبات النيات في فتح صفحة جديدة بين الدولتين وعلى كل المسارات.
وانطلاقاً من هذه المعطيات تصرّ المصادر الديبلوماسية على ضرورة إعطاء الوقت الكافي لمثل هذه المحطات قبل الحديث عن اي حلول مرتبطة بأي من الأزمات المتعددة، والتي تتوزع بين اليمن والعراق وسوريا ولبنان وربما على مستويات أخرى قد تقود التفاهمات الى تناولها. فللطرفين علاقات وثيقة بحلفاء آخرين منخرطين في كثير منها ولا بد من ان يكون لهم تصور ورؤية لا يمكن تجاهلها في اي منها ويقع على عاتقهما أمر تذليلها توصّلاً الى ما يمكن تطبيقه من جانب جميع الأطراف على حد سواء.
وان توسّع الحديث ليطاول الازمة اللبنانية، تصرّ المصادر عينها على التأكيد أنه لا بد من ان يصل الامر الى الوضع في لبنان فله موقعه لدى الطرفين وإن اختلفت اولوياتها بإدراج ملفه وفي اي درجة ممكنة. والى ان تنجلي كل هذه الظروف لا بد للبنانيين من ان يقوموا بمسؤولياتهم، ذلك انّ هناك خطوات مطلوبة منهم قبل الرهان على اي تقارب اقليمي او دولي. وينبغي على الجميع العودة الى موقف وزير الخارجية السعودي الذي قال لهم مباشرة ان التفاهم اللبناني ـ اللبناني مطلوب قبل البناء على التفاهم الإيراني ـ السعودي. وهو ما أثبتته مختلف التحركات الداعمة للبنان. ولعل في اللقاء الاخير الذي جمع المسؤولين السعوديين بالفرنسيين وكلاهما من المكلفين الملف اللبناني ما يُنبىء بأهمية هذه الملاحظات وحتميتها.
وانتهت هذه المصادر الى انه لا ينبغي على اللبنانيين ان ينتظروا بياناً رسمياً بعد كل لقاء يعنيهم، فالمشاورات التي انطلقت من «لقاء باريس الخماسي» في 6 شباط الفائت وحتى اللقاء الثنائي الفرنسي ـ السعودي قبل ايام، لا تعدو كونها نوعاً من «العصف الفكري» الذي ما زال مفتوحاً على شتى الطروحات والاحتمالات وليس ملزماً ان يتبلّغ اللبنانيون بتفاصيلها، مع انه سبق لمجموعة السفراء الخمسة أن ابلغوا الى المسؤولين ما لديهم وما على اللبنانيين القيام به. وطالما ان ليس هناك اي توجّه لبناني جديد، فإنه لن يكون هناك أي جديد اقليمي ودولي في انتظار ما قد تحمله الايام والاسابيع المقبلة من سيناريوهات ما زالت غامضة.
وبناء على ما تقدم، تختم المصادر الديبلوماسية، انّ استمرار التشنجات الداخلية بين اللبنانيين كانت وستبقى عائقاً يحول دون قدرتهم على مواكبة المتغيرات المحتملة في المنطقة، وإن لم يتغير شيء فإنهم سيبقون في موقع «المكبّل ـ المتفرّج» على السباق القائم نحو تفاهمات كبرى قد تطيح بمصالحهم وربما جاءت على حسابهم… ومن يعش يرى.