مع الدخول في مرحلة الشغور الرئاسي نهاية الشهر الجاري، يندفع لبنان في اتجاه مسارين جديدين: الاول غامض ومحفوف بالمخاطر، وهو يبدأ مع بداية تشرين الثاني وينتهي مع النجاح في انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولكن هذا المسار الصعب والذي لا يزال غير واضح، فلا احد يستطيع منذ الآن تحديد مدته الزمنية والمفاجآت التي قد تظهر خلاله. اما المسار الثاني فهو الأوضح، والذي يؤسس لاستعادة لبنان استقراره، مع إعادة بناء مؤسساته المدمّرة وفق أسس علمية حديثة، وفصل لبنان بأكبر مقدار ممكن عن نزاعات المنطقة واصطفافاتها. ومن المفترض ان يبدأ هذا المسار مع انتخاب رئيس جديد خارج إطار الاصطفافات والنزاعات الاقليمية، وان ينسحب ذلك على الرئيس المقبل للحكومة، والتي من المفترض ان يستجيب اعضاؤها للمنطق نفسه، وان يشكّلوا فريق عمل متجانساً ولو بالحدّ الأدنى، للشروع في رحلة استعادة الاستقرار.
من المفترض ان يقوم الرئيس المقبل للجمهورية ومعه رئيس الحكومة، بأول زيارة خارجية إلى السعودية، حيث من المتوقع ان يجري توقيع اتفاقيات ضخمة تناهز الـ 22، وتشمل معظم القطاعات المنتجة. وهو ما سيؤدي اولاً إلى اعادة ضخ السيولة في شرايين القطاعات اللبنانية المنتجة، وثانياً الى استعادة شيء من الثقة الخارجية معطوفة على رعاية صندوق النقد الدولي المتمسك بالإصلاحات التي يطالب بها. كذلك من المفترض ايضاً ان تشكّل هذه المرحلة بداية الحقبة المشرقة في لبنان بعد السنوات العجاف.
وفي الواقع، إن الاقتصاد اللبناني المدمّر قد لا يكون في حاجة لأكثر من استعادة الثقة الدولية به، فكيف اذاً مع السعي لضخ الاستثمارات في جسمه. فالإعجوبة الاقتصادية اللبنانية حاضرة دائماً، وهي تثبت نفسها في كل مرة. فعلى الرغم من الانهيارات القاسية التي اصابت قطاعات لبنان، والتي كانت لتقضي كلياً على اي بلد آخر لو مرّ فيها، الّا انّ القطاع الخاص على سبيل المثال استطاع، ولو بالحدّ الأدنى المتوافر، التأقلم مع الواقع المزري والاستمرار ولو بصعوبة. وهو ما يعني انّ «طائر الفينيق» قادر على النهوض مجدداً شرط استعادة الثقة الدولية به.
وعلى سبيل المثال، بلغ دخل لبنان في العام 2010 من خلال قطاع السياحة وحده اكثر من 9 مليارات دولار، وهو ما يعني كثيراً. لكن قبل الوصول الى هذه المرحلة «الوردية» هنالك المرحلة الغامضة والمحفوفة بالمخاطر، والتي تبدأ بعد اقل من اسبوعين. هي مرحلة اشتداد التعقيدات الداخلية والمعطوفة على كباش محلي ـ اقليمي لتحسين شروط الاطراف في الصفقة المنتظرة. ولا شك في انّ إنجاز ملف الترسيم البحري يعطي إشارات ايجابية أكان من جهة «حزب الله» الذي وافق على ما كان يُعتبر من المحرّمات في السابق، او من جهة الولايات المتحدة واسرائيل لناحية السماح بالبدء بالتنقيب عن الثروة اللبنانية في البحر. إلّا أنّ هذا المؤشر المهم لا يعني انّ سلوك درب التسوية المنتظرة سيكون سهلاً.
أولى الإشارات ظهرت مع الردّ الفوري والسريع للسفير السعودي على عشاء السفارة السويسرية، وبغض النظر عن وجود خلفية للعشاء او عدمه، إلاّ انّ ردّ فعل السفير السعودي السريع أظهر الحساسية الفائقة حيال «اتفاق الطائف».
في السابق، وضعت السعودية علامات استفهام كثيرة حول كلام الرئيس الفرنسي خلال زيارته الثانية لبيروت، حين تحدث عن «عقد اجتماعي جديد». كلامه يومها تلقفه «حزب الله» بارتياح وسرور بالغين، لكنه أثار من دون أدنى شك حساسية السعودية. وخلال اللقاء الفرنسي ـ السعودي الاخير في باريس، وبعد انتهاء المحادثات، التفت السفير السعودي في لبنان وليد البخاري الى مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل وسأله على مسمع رئيس المخابرات الفرنسية برنار ايمييه، ما إذا كانت باريس موافقة على استبدال «اتفاق الطائف» بنظام سياسي آخر. واجابه دوريل على الفور بالنفي. وزيادة في التأكيد، وربما لتجنّب أي تأويل مستقبلي، سأل البخاري المستشار الرئاسي الفرنسي عمّا إذا كان يستطيع نقل هذا الجواب رسمياً الى سلطات بلاده. فأجابه دوريل على الفور: «أكيد، من دون شك».
واستطراداً، فإنّ اي تسوية منتظرة حيال الأزمة اللبنانية لن تطاول اي تغيير لاتفاق الطائف، خصوصاً انّ واشنطن ومعها باريس، تقرّان بدور متقدّم للسعودية، كونها ستتولّى رعاية جهود ومساعدة لبنان اقتصادياً في المرحلة المقبلة.
وفي الاجتماع الباريسي الشهير، طرحت السعودية من خلال وفدها معادلة الرئيس المقبل للجمهورية ومعه الرئيس المقبل للحكومة من خارج الاصطفافات الاقليمية. لكن تفاقم المشكلات الداخلية واستعار الفوضى الدستورية والمعيشية والمتوقعة مع فترة الشغور الرئاسي، سيدفعان لاحقاً الى وضع ملف إعادة تكوين السلطة في لبنان على بساط البحث، وهذا ملف مليء بالأفخاخ.
فحتى الآن ليس هنالك من مؤشرات جدّية وفعلية حول ولادة حكومة جديدة وسط الشروط المتبادلة. حتى الآن يطرح رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل استبدال مقاعد مسيحية عدة، وفي المقابل إدخال حزبيين، مثل النائبين السابقين امل ابو زيد وإدي معلوف والوزير السابق صالح الغريب.
وفي المقابل، يعارض الرئيس نجيب ميقاتي إحداث تغييرات واسعة وإدخال اسماء حزبية نافرة في مقابل القبول بتعديلات لا تتجاوز الثلاثة او اربعة مقاعد كحدّ اقصى. المتفائلون يعتقدون انّ ما يجري هو في اطار رفع سقف التفاوض، وأنّ الطرفين يلعبان ضمن الوقت المتاح، قبل ان يعودا للاتفاق قبل يومين من انتهاء ولاية الرئيس عون، أي يلعبان لعبة استنفاد الوقت حتى الدقيقة الاخيرة.
اما المتشائمون فيعتقدون أنّ لا مصلحة فعلية لأي من الطرفين في التنازل عن السقف الذي يضعه كل منهما، وبالتالي فإنّ مصلحة باسيل بعدم التراجع والذهاب الى خطاب غرائزي ومعارض في مرحلة الفراغ، وهو ما قد يكسبه في شارعه ويعيد له بعض خسائره الشعبية.
اما ميقاتي، فمن مصلحته الدخول في مرحلة الفراغ مع حكومة عامل المشاكسة فيها ضعيف، وقادرة على تحقيق انجازات ملحّة مثل الكهرباء.
ووفق هذه الصورة، فإنّ منسوب الفوضى سيصبح أعلى وسيرتفع مستوى التشنج السياسي، ما سيؤدي الى استثماره لدى القوى المؤثرة قبل ولوج المؤتمر الحواري.
أضف إلى ذلك، تلميح باسيل الى إعادة النظر في ترشحه، وذلك بعدما «عوّل» على اتصال الرئيسين الاميركي والفرنسي بالرئيس ميشال عون، وأنّ الظروف عادت لتبتسم له. ولكن لا بدّ ان تكون السعودية تراقب بتمعن السلوك الهادئ لـ«حزب الله».
فـ»حزب الله» لم ينخرط بعد في السباق الرئاسي، هو لم يتبنَّ رسمياً مرشحاً معلناً ولا يبدو انّه في هذا الصدد قريباً.
كذلك، فإنّ موقفه المساعد في ملف الترسيم البحري له دلالاته السياسية. وقد تكون السعودية ترى شيئاً من الواقعية لدى «حزب الله»، لها علاقة بالصورة الأوسع على صعيد المنطقة، والتحوط حيال المحطات المستقبلية. ولا شك في انّ التطورات الكبيرة الحاصلة في المنطقة والعالم جعلت لبنان في صلبها، وهي من المرات النادرة التي يستفيد لبنان منها ايجاباً. والمقصود هنا الترسيم البحري. لكن المشكلة المستجدة تتعلق بتدهور العلاقات الاميركية ـ السعودية.
فمن الواضح انّ إيلاء مسؤولية إعادة انعاش الاقتصاد اللبناني للسعودية جاء بتشجيع اميركي، مقروناً بوجوب إعطاء السعودية دوراً في ترتيب مرحلة اعادة الاستقرار إلى لبنان. فهل يؤدي تدهور العلاقات الى تأثر لبنان سلباً؟
لا توافق مصادر سعودية هذه القراءة، وتعتقد انّ الملف اللبناني لن يتأثر سلباً نتيجة ما استُجد في العلاقة السعودية ـ الاميركية. لكن الاهم التعاطي بكثير من الواقعية والمسؤولية مع المرحلة الغامضة التي يوشك لبنان على دخولها، رغم انّ الطبقة السياسية أعطت كثيراً من الامثلة ولا تزال، حول وضع مصالحها الذاتية والخاصة على حساب المصلحة العامة. لكن الواضح ارتفاع منسوب الحركة الديبلوماسية في بيروت، ولو من دون الإعلان عن ذلك. وهذه الحركة ترتكز على انّ لبنان لن يكون ضحية التسويات الاقليمية، لا بل على العكس سيكون جزءاً من الحل وليس ثمناً له، كما كان يحصل سابقاً. وفي 27 من الشهر المقبل، سيجتمع مجلس الأمن لمناقشة ملفات عدة، وسيكون الملف اللبناني حاضراً وخصوصاً في البيان الذي سيصدر. والعواصم الغربية تدرك انّ مرحلة الشغور لن تكون مفتوحة، مع الإشارة الى تاريخ يستوقفها، وهو انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان المركزي في الصيف المقبل.
كذلك، فإنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيزور الفاتيكان يوم الأحد المقبل، حيث سيلتقي البابا فرنسيس يوم الإثنين، وسيكون ملف لبنان حاضراً في المحادثات بينهما. باختصار لبنان ليس منسياً.