كنا اعتدنا على معاينة انواع التحقير التي تلحق بالعروبة و”العربان”، التعبير المستخدم من قبل الايرانيين، وتابعيهم من العربان انفسهم!! للسخرية من بداوتهم. كان المشهد قاتماً ولا ينبئ بأي امكان للتغيير قبيل انطلاق “عاصفة الحزم” التي فاجأتنا في صبيحة يوم 26 آذار الفائت. وبعد ان كان العجز العربي أمراً مفروغاً منه وبعد ان كان “الخليجي” ينعت بـ”التنبلة” والتقاعس، صار “معتدياً متدخلاً بشؤون الدول العربية”! على نمط احترنا يا قرعة.
في المقابل، لم يثر هذا التبدل الجذري للسياسة السعودية انتباه مكونات تحالف 14 او يحفّزهم على مواكبتها وإبداء القليل “فقط” من المواجهة. فظلوا على عاداتهم القديمة في التخاذل والتنازل امام هجوم “حزب الله” على ما تبقى من الدولة. والأخير (يحتمي من أجل عيون الميثاقية) بمواقف حليفه المسيحي، الذي فجأة صار “يثبت على مواقفه”.
وهنا لا اريد أن أظلم مكونات تحالف 14 آذار الذين تعرضوا للعنف والاغتيالات وصمدوا. لكن صمودهم بدأ يتراجع منذ هجمة 7 أيار المجيدة عام 2008. وهنا لا يمكن أن نغفل عامل التوازنات الاقليمية التي باركت تقديم التنازلات في الدوحة برعاية خليجية. ولا رضوخ الجميع للانقلاب الذي حصل عام 2011 اثر حفلة القمصان السود.
مع ذلك لا بد من إظهار الفرق بين تنازلات تحفظ البلد والسلم الأهلي وتنازلات تفرّط به بحثاً عن المحاصصات وتقاسم الجبنة وآخرها فضيحة النفايات التي لا تجد حلاً.
اعتاد الفريق السيادي على تقديم التنازل تلو الآخر تحت شعار الحفاظ على السلم الأهلي ومنعاً للعنف؛ في ظل استفادته من تقاسم الحصص مع الفريق الآخر، لكن دون خطة واضحة أو استراتيجيا لبلوغ أي هدف!!
الفريق الآخر يقدم تسهيلات المحاصصة شرط غض النظر عن سلوكه في الداخل والخارج في ظل امتلاكه أهدافا وأجندة وخطة عمل متكاملة تضعها له ايران علناً (بعد نفي مديد).
تنازلات الفريق السيادي تفيد اعضاء هذا الفريق ومن حولهم على حساب مصلحة وسيادة الدولة والشعب ككل. أما تنازلات الفريق الآخر الشكلية عن الفتات، حيث أنه يضع يده على البلد ومقدراته جميعاً، فهي قبول آني للمحاصصة مقابل الهدف البعيد، أي استكمال خطة وضع اليد على لبنان كله في انتظار نجاح المشروع الايراني في سوريا واستعادة امبراطورية فارس (بحسب رجالاتها) كامل لياقتها. هذا اذا وافق الاحتلال الروسي المستجد على ذلك!!
هنا جاءت الصدمة التي شكلها قرار السعودية بسحب الهبة المقدمة للجيش اللبناني لكي يكف اللبنانيين عن التصرف كالطفل المدلل ذي الذنب المغفور. انه صدمة كهربائية موجهة للحلفاء المتقاعسين قبل الخصوم. فالتململ السعودي كان واضحاً عبر عشرات المقالات والتصرفات لكن لم تجد من يقرأها كما يجب، حتى بعد أن وصلت وزير الدفاع نفسه الذي لم يجد فيها ما يوجب التحرك.
أوصلوا الأمر الى حد اضطرار الحكومة اعلان عروبة لبنان وبخجل بعد مداولات سبع ساعات؛ اذن ما معنى “وقوفنا الدائم الى جانب اخواننا العرب وتمسكنا بالاجماع العربي في القضايا المشتركة”؟ أي قضايا هي تلك غير المشتركة وتخص من؟
وأن تعلن وثيقة بهذا الخصوص من بيت الوسط؟ وثيقة تذكرنا بالعرائض الطالبية ضد المسؤولين!!
يقارن البعض، في معرض استهجانه الغضب السعودي والخليجي ضد مواقف لبنان الديبلوماسية المعادية للسعودية، وضد حفلات الشتم المبتذلة، بالتباين الذي حصل اثناء ازمة اليمن بين السعودية وعبد الناصر. متسائلين ببراءة: ألم يصدر مثل ردود الفعل هذه حينها؟
وهذا منتهى الغرابة! فأن تنحاز الى موقف عربي ضد آخر، شيء؛ وأن تقف ضد الموقف العربي الواحد والجامع والمدافع عن الأمن القومي العربي بحيث أن العراق نفسه الموضوع تحت الوصاية الايرانية المباشرة باعتراف الجميع لم يخالفه، شيء آخر مختلف نوعياً. وان تتخذ موقفاً تراجعت ايران نفسها عنه يعد منتهى الانحياز والتملق غير المطلوب على ما أقدر .
أما الاصرار على هذا الموقف “لحفظ الوحدة الوطنية”!! فماذا يعني؟ إعلان تحولنا شعبين، واحد عربي وآخر فارسي؟ ان شعب لبنان عربي اولاً وآخراً وليُسأل جمهور “حزب الله” نفسه عن موقف الايرانيين العنصري منهم اذا كانوا لا يزالون يصدقون؟؟؟ ولنسأل هذا الجمهور عن سبب تفضيلات هجرته الى الغرب الكافر او خليج البترو دولار وليس الى حضن ايران المنتفخ!! ولنسأل عن الآلاف من محازبيه ماذا يفعلون في السعودية نفسها؟ لم توجهوا الى هناك أصلاً؟
وأي وزير يحترم عقول اللبنانيين وذكاءهم يعلن: ان البعض “استغل” موقف السعودية “لغايات رخيصة”!! وما هي هذا الغايات الرخيصة بحسب تصريحه؟ انتخاب رئيس للجمهورية؟
قرار السعودية يتطلب مواجهة شجاعة مع من يأخذنا من بلد تحرّر من اسرائيل كي يخضع لنفوذ ايران التي تقاتل الشعوب العربية وتفككها. وهذا لا يحصر المسألة فقط بمعيشة اللبنانيين سواء في الخليج او في لبنان على اهميتها. المسألة تتعلق بما هو جوهري ووجودي: عروبة لبنان والأمن القومي العربي.
هذا لا يعني أنه المطلوب من السعودية في صراعها القومي مع ايران ان تقبل بالتخلي عن لبنان وعن دعم جيش لبنان وأمنه؛ بل العكس يتطلب أن تضغط على من يلتحقون بالمشروع الايراني عبر تعريتهم وعبر دعمها للبنانيين الوطنيين والعروبيين وهم الغالبية. دعم مقاومتهم للنفوذ الايراني ولتابعيه بكل الوسائل. وعلينا ان نتعلم مما حصل في العراق اثر تخلي العرب عنه بعد اغتيال السفير المصري في العام 2005.
ايران لا تريد جيشا لبنانياً قوياً، لكن باستطاعتها عبر ماكينتها الاعلامية “العربية” للأسف ان تبدي دعمها كي تلحق الجيش اللبناني بسرايا المقاومة. وان تكمل دعايتها البروباغندية التي تزعم دعمها للشعب اللبناني كما نعاين دعمها للشعب السوري.
لذا ليس على قوى 14 آذار سوى التصدي و”استغلال الفرصة” على حد زعم وزير خارجيتنا للغاية “الرخيصة” الا وهي الضغط من أجل انتخاب رئيس . لكن هذا يوجب الخروج من منطق المحاصصات ولو آنياً حفاظاً على ما تبقى من الدولة.