تجلى رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون بخطاب خاطب فيه الناس المحتشدين في القصر وعلى الطرق المؤديّة إليه. لم ينفصل خطابه هذا البتّة عن خطاب القسم، ولم يتغيّر المعطى عنده عن ذلك المعطى حين كان في الرابية، هو وحدة متكاملة ببعده الميثاقيّ حين كان خارج الحكم أو رأسًا له.
الفلسفة السياسيّة التي تكوّن بها الرئيس لما تزل على ثباتها ورسوخها. لقد أطلق مجموعة مسلّمات جعلها أمام هذا الحشد الشعبيّ والتاريخيّ، الذي لم يحصل له مثيل في التاريخ المعاصر والحديث في المدى العربيّ، منها دستوريّة معتبرًا بأنّ الميثاق سيكون هو الأساس لكلّ شيء، ومنها الميثاق معتبرًا أنه سيكون جوهر الحكم، ومنها ما بختصّ بالعناوين الاجتماعيّة والإنمائيّة كمثل الماء والكهرباء والطرقات، متعهّدًا بالانكباب على معالجتها من بعد ما أطبقت الكيديّة السياسيّة في السابق على إمكانية المعالجة، ومنها أيضًا ضرب الفساد واقتلاعه على المستويات السياسيّة والإداريّة والإنمائيّة والماليّة من جذوره، ومحاكمة الفاسدين والمفسدين وتطهير البلد والدولة منهم…
من عرف العماد ميشال عون عن كثب قبل الرئاسة والآن فيها يدرك تمام الإدراك أن ما رام إليه لم يكن مجرّد حديث شعبويّ ونظريّ. بل هو سعي للتجذير والتصليب ومن ثمّ التثمير لمصلحة لبنان بكل طوائفه. وترى بعض الأوساط بأنّ رهان بعضهم على جعل بعض الوزارات من الثوابت الطائفيّة والحزبيّة بكلّ محتوياتها والتي لا حياد عنها في التشكيلة الجديدة، والقابضة من خلالها على معظم مفاصل الدولة، عائد إلى مسألتين حقيقيتين:
1-المسألة الأولى ضمان ديمومة الوزير الثابت القابض على هذه الوزارة كممثّل أساسيّ للطائفة التي انتدبته ليوقّع عنها، وليضمن من خلالها القدرة على التعطيل حيث يشاء والمسماح حيث يشاء أيضًا بدوره. وتعتقد تلك الأوساط بأنّ هذا الأمر لن يكون موضع ترحيب من رئيس الجمهوريّة، وفي المبدأ هو ملفوظ من أي ترتيب سياسيّ يشاؤه رئيس الجمهورية في بداية عهده.
2-المسألة الثانية ضمان عدم افتضاح الفاسدين من ضمن دوائر بعض الطوائف. لكنّ الضمانة الأساسيّة بأنّ السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله أعلن بكل وضوح كما رئيس الحكومة سعد الحريري بعدم تغطية أي فاسد والتعاون مع سيد العهد الجديد بقطع رأس الفساد وسحق الفاسدين بمحاكمتهم وسوقهم إلى العدالة، تواكب هذا الأمر الرسالة الإيجابية من قبل الرئيس نبيه برّي تجاه الرئيس العماد ميشال عون.
بهذا المعنى يسوغ القول بأنّنا أمام محتوى جديد مطلّ على آفاق نورانيّة. فالانكباب الدوليّ والعربيّ على رئيس الجمهوريّة واضح المعالم، لقد زاره أمس وزير الدولة السورية لشؤون الرئاسة منصور عزّام موفدًا من الرئيس بشار الأسد مهنّئًا ومعتبرًا بأنّه لم يكن هنالك صفحة قديمة في العلاقات اللبنانية-السوريّة مؤكّدًا بأن ثمّة مصالح مشتركة جامعة… وقد أتت الزيارة لتمهّد بحسب بعض الأوساط لقمّة بين الرئيسيين ميشال عون وبشار الأسد في وقت قريب لتفتتح مرحلة جديدة من القراءة المشتركة للأوضاع في المنطقة وبخاصّة تجاه الحرب على الإرهاب. كما انّ زيارة وزير الخارجيّة الإيرانية محمد جواد ظريف ستكون متوازنة باتجاهاتها ومبعانيها، ذلك أنّ إيران قوّة إقليمية كبرى وأساسيّة في الصراع وصولاً إلى تكوين التسوية السياسيّة الكبرى المنتظرة، وقد كانت بدورها رافعة لتكوين التسوية الصغرى على المستوى اللبنانيّ، وكأنّها شاءت الاعتبار بأنّ لبنان منطلق لتجسيدها بالعنوان الرئاسيّ للبلوغ بها إلى الحسم الميدانيّ بين الموصل والرقة ودير الزور وحلب لتكتسب عناصر القوة منه وينطلق قطارها نحو تحديد المحتوى التاسيسيّ الجديد ما بين سوريا والعراق. ومن هنا إن زيارة ظريف لن تكون محصورة فقط برئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، بل سيلتقي بصورة اساسيّة الرئيس سعد الحريري لتوضيح الرؤى وفي ظلّ انفراج طيب توضّح في العلاقة ما بين الرئيس الحريري وحزب الله ظهر خلال استقباله وفد كتلة الوفاء للمقاومة خلال المشاورات غير الملزمة. وتتوقّع بعض المصادر ازدياد منسوب الانفراج للوصول إلى لقاء وشيك بين الرئيس سعد الحريري وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله.
في المقابل تتوقّع مصادر أخرى وعلى مستوى العلاقة اللبنانيّة-السعوديّة، أن يحذو السعوديون حذو الإيرانيين والسوريين. ثمّة إشارة طيبة أطلقها وزير الخارجية جبران باسيل تجاه السعوديين تمهد الطريق لتواصل قريب مع رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون. فهم استلحقوا أنفسهم في تلك التسوية الصغيرة، وهم المدركون بانّ أزمة اللحظة المستجدّة قانون جاستا ويعبّر عن شدّة السوء وخطورة المرحلة ما بين الأميركيين والسعوديين وفي تقدير كبير بأنّ تلك اللحظة ستهيمن بالتأثير على مساحة شاسعة من العلاقة بين المملكة وعناصر الأزمة في سوريا والعراق واليمن، ومع إيران كقوّة أساسية في المنطقة. ومن الإشارات الواضحة المؤكّدة لهذا التأثير الصمت المريع لوزير الخارجية السعوديّ عادل الجبير، وهو ما كاد يأفل اسبوع ويطلّ آخر وإلاّ ويظهر على الإعلام بتصريحات معلنًا عن استمرار الحرب مع بشار الأسد. وهنا تبين بعض المعلومات بأنّ التيار العقلانيّ بدأ يسيطر على مفاصل السياسة الخارجية للمملكة يقوده ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بعد قراءة متسفيضة للعلاقة السعودية مع عناصر الأومة مستعرضًا فيها اوراق الربح والخسارة، ليتبيّن في المحصّلة بأن دائرة الخسائر بأتت أوسع من دائرة الريح. فكيف وقانون جاستا بات سيفًا مسلطًا بقوة على الدور السعوديّ في المنطقة.
إنّ عنصر التموضع السعوديّ من الطبيعيّ أن يبدأ من لبنان من هذه التسوية الرشيقة بين المكونات الأساسيّة في لبنان المنتجة لهذا العهد برئاسة العماد عون. لقد بدأ بلبنان مواكبًا السعيّ الإيرانيّ للحلّ بلا لقاء، وهو العارف بأنّ النظرة الإيرانية للمنطقة ستكون الغالبة بالمطلق وبدقّة استراتيجيّة لا متناهية بفعل اكتمال عناصر الحسم ضمن الدائرتين السوريّة-العراقيّة سواءً أخدت وقتًا طويلاً أو قصر الوقت. فالحرب على الإرهاب لم تعد نزهة أميركية عابرة، بل مشروع متكامل ليس للسعوديين سوى أن يكونوا جزءًا منه في المراحل المقبلة. التموضع في التسوية اللبنانية هو مكان الاختبار الطبيعيّ، إنتاج العهد وتأليف الحكومة والتواصل بين المكونات كلّها عناصر تكوّن وتؤلّف المنطلقات الجديدة لمنطقة ستكون جديدة وبمنطق جديد.
ويظنّ كثيرون بأنّ المنطلقات الحسيّة ستترجم بزيارة لموفد سعوديّ الى لبنان ولقاء الرئيس عون ورئيس الحكومة سعد الحريري ومسؤولين سياسيين، لم يعلن وقتها بعد، إلاّ أنها ستتمّ ضمن تلك الدائرة وستمهّد الطريق لزيارة يقوم بها رئيس الجمهوريّة إلى المملكة من ضمن فتح صفحة جديدة في العلاقة مع العهد، تؤكّد في مضمونها المنطلقات الأساسيّة ليس فقط للعلاقات بل للتسوية المحصورة في الزمن الحاضر في لبنان بصورة غير مباشرة ولكن المنتظرة أن تعمّ الإقليم المتوتّر بمؤتمر تأسيسيّ لتسوية شاملة متكاملة الأجزاء من سوريا إلى العراق فاليمن.
إنّ تأليف الحكومة سيكون ناجزًا إسقاطًا لما تبين وبأسرع وقت ممكن. ستكون للبنان حكومة جديدة برئاسة سعد الدين الحريري، وسيدخل البلد مرحلة البحث بأمرين أساسيين ضروريين:
-قانون للانتخابات يحقّق المناصفة النسبية. وهذا أمر ملح لكل الطوائف.
-الموازنة لتأمين سيرورة العمل الحكوميّ والعلاقية بين الحكومة والقطاعات الخاصة بالدولة اللبنانيّة.
تبقى الإشارة إلى رسالة الرئيس نبيه برّي الإيجابيّة تجاه رئيس الجمهوريّة، ويؤمل أن تكون بادرة خير تطوي صفحة الماضي وتفتح صفحة جديدة من الإصلاح الجذريّ تشترك فيه كل الطوائف والمكونات، من أجل غد أفضل للبنان والمنطقة بأسرها.