Site icon IMLebanon

“العودة السعودية”… إشارات تنتظر ترجمات

 

يبدو أنّ لرئيس الحكومة سعد الحريري مع فصل الخريف مواعيد متجددة، بحلوها ومرّها. تكاد لا تمرّ أشهره الثلاثة بلا مفاجآت. قبل عامين، سجّل شهر تشرين الأول حدثاً مفصلياً في مسار رئيس “تيار المستقبل”، يجوز القول إنّ ما قبله غير كلياً ما بعده. من دخل السعودية حينها، هو غير من خرج منها. تركت تلك التجربة الكثير من معالمها في شخصية الرجل وطبعت سلوكه.

أما خريف العام الماضي فقد شهد على مخاض حكومته الثانية حيث كادت في لحظة تعقيدات صعبة أن تطيح بكل جهوده للصمود في نادي رؤساء الحكومات. بدت يومها أزمة توزير سنّة الثامن من آذار كعقدة في خشبة رئاسته الثانية للحكومة في عهد الرئيس ميشال عون.

 

وفي أيلولنا هذا، يُضطر الحريري لإقفال آخر منابره الإعلامية بعد استنزاف طويل للشاشة الزرقاء، مع وعد بانتقال القناة إلى مرحلة جديدة، في خطوة لا تخلو من منعطف استراتيجي في مسيرة الرجل مذ وُضعت عباءة الزعامة على كتفيه.

 

وفي خضمّ توتر إقليمي يكاد يشعل المنطقة برمّتها، جاءت المفاجأة على شكل خبر مخالف لطبيعة المناخ المحيط، يؤكد من خلاله وزير المال السعودي محمد الجدعان مواصلة دعم بلاده لحكومة لبنان. “بُشرى” بدت وكأنّها تحلّ على اللبنانيين، من كوكب آخر. في اليوم نفسه، كانت الرياض تتوعد بالردّ على الاعتداء الذي تعرضت له منشآتها النفطية، متهمةً إيران بشكل محدد بالوقوف وراء الاعتداء.

 

وضعت كلمات الوزير السعودي القليلة على مشرحة التحليل: هل ما أدلى به هو نتاج سؤال حشره فيه سائله؟ هل تقصّد الإجابة بهذا المنحى؟ ماذا تخبئ المملكة للبنان في هذه المرحلة الدقيقة بالذات؟

 

ما زاد من وقع “الطحشة” السعودية المفاجئة، تزامن “الإعلان المالي” مع دعوة وجهتها المملكة إلى الحريري عبر سفيرها وليد البخاري للمشاركة في الدورة الثالثة للمنتدى العالمي لصندوق الاستثمارات العامة في المملكة والذي سيعقد بعنوان “مبادرة مستقبل الاستثمار” ما بين 29 و31 تشرين الاول المقبل في العاصمة السعودية الرياض. ومع تشجيع سعودي على إعادة تفعيل العمل باللجنة العليا اللبنانية – السعودية وتوقيع اتفاقيات ثنائية.

 

حتى أنصار المملكة في لبنان بدوا متفاجئين حين تليت على مسامعهم “طقوس العودة السياسية” إليها، في وقت بدا فيه تفعيل خطّ بيروت – الرياض ضرباً من ضروب الخيال. فالغلبة حالياً لطبول الحرب. ومع ذلك وضّب رئيس الحكومة حقيبته وطار على عجلة إلى السعودية.

 

السياسة السعودية في لبنان

 

لا تفسير واحداً أو واضحاً لما تكتنزه الرياض في سياستها تجاه لبنان، وما إذا كان إعلانها الثلاثي يضمر مساراً جديداً تجاه الأزمة اللبنانية المستفحلة في شقها الاقتصادي والمالي، وما إذا كان الأمر مرتبطاً بإعادة صياغة موقفها تجاه رئيس الحكومة أو تجاه لبنان بشكل عام، غير المعزول عن محيطه وتطوراته.

 

في الأساس، من الصعب الفصل بين العلاقة التي تربط الحريري بالديوان الملكي، عن تلك التي تربط الرياض في حقبتها الحالية، بلبنان. غالب الظنّ أنّ الأولى، حيث يختلط الشخصي بالعام، حتّمت طبيعة الثانية ورسمت مسارها. ومع ذلك، لا يجوز أبداً استحضار أي مقارنة لما كانت عليه علاقة السعودية بلبنان طوال عقود.

 

 

إذ، من الظلم إسقاط تجربة الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع المملكة على سلوكية نجله ووضعيته تجاه الديوان. فالأول هو مبتكر الدور السعودي في لبنان، فيما الثاني متلقٍ بفعل الوراثة السياسية. وبينما سهّلت التسوية السعودية – السورية التي فصّلت اتفاق “الطائف” على قياس الوصي السوري، مهمة الحريري الأب، فقد عقّدت الظروف دور الابن حين وضعت على كتفيه مهمة مواجهة “حزب الله” الذي استحال لاعباً اقليمياً.بهذا المعنى، كان الحريري هو الأكثر دقة في التعبير عن حيثيته: “حزب الله ليس مشكلة لبنانية فقط بل مشكلة إقليمية. ليست مشكلتي أو خطأي أن “حزب الله” أصبح قوياً الى هذه الدرجة”. إذاً، ما أراد إيصاله عبر الرسائل المشفرّة، مفاده: لا تحمّلوني فوق طاقتي.!التعايش مع “حزب الله”

 

معادلة التحمّل هذه، هي التي يدفع رئيس “تيار المستقبل” ثمنها في علاقته مع السعودية التي تبدو غير راضية، حتى لو لم تقلها، عن سلوكه تجاه “الحزب”، فيما هو يتصرف “مكشوف الظهر”، ما يدفعه إلى أقصى الواقعية التي تحتم عليه التعايش مع “حزب الله” تحت سقف حكومة واحدة.

 

وفق المطلعين على سلوك الحريري الابن، هو أقدم على الكثير من الخطوات الانفتاحية تجاه الممكلة، وما موقفه الأخير ازاء الاعتداء على أرامكو إلّا نموذج لاصراره على التناغم مع اعتبارات السعودية. لكن بالنتيجة، خياراته في الداخل محدودة بفعل خصوصية التركيبة اللبنانية.

 

ويقول خصوم السعودية إنّ الرياض استسهلت خيار “المواجهة”، فزادت من الأثقال الملقاة على عاتق رئيس الحكومة في وقت بدا المشهد اللبناني وكأنّه صار برمّته بقبضة “حزب الله” ما اضطر الرياض إلى اعادة تموضعها على الساحة اللبنانية من خلال الاكتفاء ببعض الحضور الاجتماعي- الخدماتي. صار الاستثمار السياسي في لبنان بالنسبة للمملكة، غير مجدٍ، الأمر الذي يفسر شبه الانكفاء عن الواجهة اللبنانية. وهذا ما يحيط خطوة الدعم السعودي المالي للبنان بعازل من الشكوك وعلامات الاستفهام.

 

وفي حال سلك الإعلان الرسمي طريقه إلى التنفيذ، فهذا يعني، وفق مطلعين على هذا المسار، أنّ الرياض قررت الاستجابة لطلب واشنطن بالإبقاء على الاستقرار المالي اللبناني على الحافة، ومدّه بما يكفي من الأوكسيجين لمنعه من الغرق، لا أكثر. إذ ليس المطلوب تعويم الاقتصاد اللبناني، ولكن ما يكفي لحمايته من الإفلاس.

 

سبق للحريري أن سمع من المسؤولين الأميركيين خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن تطمينات، تتناقض وسلوكهم إزاء العقوبات المالية، عن حرصهم على عدم إدخال الوضع اللبناني في فوضى مالية.

 

ويؤكد هؤلاء أنّ الرياض رصدت أصلاً بعض الرساميل الاستثمارية وبالتالي يمكنها الدخول في شراكة مع الشركات الأوروبية المستثمرة في إطار “سيدر” في حال ألحق كلام وزير المال بخطوات تنفيذية.

 

ولكن مقابل منسوب التفاؤل هذا، تبقى خطوة الدعم السعودية تنتظر ترجمات ملموسة تبدّد كل شكّ وتشكيك بعزم المملكة على مراجعة موقفها تجاه لبنان… ونقل دفة التعامل معه من مربّع “الإِشارات الإيجابية” إلى المربع “السياسي- العملاني”.