يستعدّ كلّ من تيار «المستقبل» و«حزب الله» للاجتماع التحاوري المباشَر الأوّل بينهما منذ مدّة طويلة.
«حزب الله» عمَّم على نوّابه ومسؤوليه عدمَ التعليق على الكلام الذي أطلقَه الرئيس سعد الحريري، ما يعني تفهّمَه أنّ القسم الأكبر منه كان مخصّصاً لاستيعاب شارعِه وتحضيرِه للجولات الحوارية.
الحريري أقرَّ بوضع بندَي السلاح والقتال في سوريا جانباً. من المفروض ان يدخل الحاج حسين خليل والسيّد نادر الحريري الى غرفة التفاوض بهدف تخفيف التشنّج المذهبي، إضافةً إلى البند الاساس، وهو الاستحقاق الرئاسي.
وفي كلام الحريري خطوات متقدّمة في هذا الشأن، وصلت الى حدّ إعلان سقوط خيار المرشّحين الذين ينتمون الى أحَد طرفي النزاع في لبنان، وفتح باب التوافق على مرشّح مستقلّ يحظى بمباركة الجميع، وفي هذه الخطوة إعلان واضح وللمرّة الأولى برَفض ترشيح العماد ميشال عون، إضافةً الى سَحب ترشيح الدكتور سمير جعجع وقطع الطريق على الرئيس أمين الجميّل، وحتى الوزير بطرس حرب.
بالتأكيد، سيُغضِب موقفُ الحريري عون ويُكهرِب جعجع، ويُزعِج الجميّل وحرب، لكنّ الأهمّ هو الخَلفية التي استندَ إليها الحريري، وهل هناك مناخ دولي سمحَ بإعلان هذه المواقف. فبعدَ مغادرة الوفود جنيف، تصاعَدت التقويمات السلبية من الشخصيات الجمهورية الأميركية وجناح المحافظين الايراني، لكنّها لم تعكس حقيقة ما شهِدته الاجتماعات.
صحيح أنّ نقاطاً لا تزال عالقة بين واشنطن وطهران، مثل رفض الوفد الإيراني المطلب الاميركي أن تشمل المفاوضات كلّ ملفات المنطقة توازياً مع مفاوضات النووي. وصحيح أيضاً أنّ الوفد الاميركي رفضَ مطلب إيران إزالة كلّ العقوبات المفروضة عليها دفعةً واحدة خشية التحوّلات في الكونغرس، إلّا أنّ الأوساط الديبلوماسية المعنية تؤكّد أنّ تقَدّماً جدّياً وكبيراً حصل بين البلدين، ما يجعل الاتّفاق حتمياً في أواخر حزيران المقبل.
وحسبَ هذه الأوساط، فإنّ اجتماعات جنيف كانت على قاب قوسين من إعلان مبادئ عامة أو نيّات مشترَكة، لكن صُرف النظر عن ذلك لسببين أساسيين: الأوّل إعطاء الفرصة الكافية لكلا الفريقين لتسويق ما تفاهما عليه جيّداً في بلادهما، والثاني نجاح فرنسا والسعودية في إرجاء الإعلان الى ما بعد حصول تقدّم فعليّ في الملفات الصعبة في الشرق الاوسط، حيث لإيران القدرة على المساهمة في تذليل العقبات التي يمثّل لبنان أحدَها.
لم يكن من باب الصدفة أن يستبقَ وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل حضورَه العاجل الى جنيف بزيارة موسكو، حيث قيل إنّ وَضعَ تصوّرِ حلٍّ أوّلي للملف السوري كان في أساس هذه الزيارة. وتردّد أنّ هذا التصوّر لا يشمل رحيلَ الرئيس بشّار الاسد في هذه المرحلة على الأقلّ، بل اقتطاع جزء من صلاحياته لصالح حكومة تشكّل من الموالاة والمعارضة المحسوبة على السعودية.
ولذلك، فإنّ روسيا التي حضرَ وزير خارجيتها سيرغي لافروف الى جنيف والتي ستتولّى جانباً من «الحلّ النووي»، استقبلت لاحقاً وفداً سوريّاً برئاسة وزير الخارجية وليد المعلم الذي التقى للمرّة الأولى منذ اندلاع الحرب السورية الرئيس فلاديمير بوتين، لا بل أكثر فإنّ بوتين نفسَه تحدّثَ عن عمل مشترك مع الأسد في مواجهة الإرهاب.
وبذلك يكون الاستنتاج واضحاً: تفاهُم واضح بين الدول المعنية على تسوية سوريّة ستظهر في جنيف قريباً، وتشتمل تأليف حكومة وحدة وطنية تضمّ فصائل المعارضة القريبة من السعودية وتحظى بصلاحيات تقتطع من رئاسة الجمهورية، وكان لافتاً أنّ أيّ انتقادات لم تظهر من العواصم الغربية إثر مواقف بوتين.
لا بل إنّ مصادر مطّلعة تكشف عن تواصل أمني مباشَر سوري – أميركي وإنّ وفداً يضمّ مسؤولين في المخابرات المركزية الاميركية زار سوريا عن طريق لبنان منذ فترة ليست ببعيدة تحت عنوان التنسيق تحضيراً للحرب ضد «داعش».
من هنا يُفهَم ربّما كلام الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان ضد الولايات المتحدة الاميركية واندفاع «داعش» في كوباني بعد تمرير السلطات التركية عناصر «داعشية» عبر حدودها: رسالة غضب تركية.
وسط هذه الأجواء، انطلقَت فكرة الحوار بين تيار «المستقبل» و»حزب الله»، عِلماً أنّ الدافع الأساسي لحصول هذا الحوار ناتجٌ من تشجيع إيراني ورضى سعودي. إذ إنّه من المستحيل الشروع بهذه الخطوة بلا أجواء إقليمية مؤاتية.
وطالما إنّ ملف السلاح أصبح خارج غرفة التفاوض، إضافةً إلى مشاركة «حزب الله» في الحرب السورية، فلا يبقى من هدف فعليّ لهذا الحوار سوى ملف رئاسة الجمهورية. وعلى رغم أنّ التشنّج المذهبي الداخلي سيتراجع بمجرّد حصول الاجتماعات، إلّا أنّ الأهمّ سيكون ملفّ الاستحقاق الرئاسي والتسوية الداخلية التي ستواكب ولادة الرئيس المقبل.
الأوساط الديبلوماسية تؤكّد أنّ مناخاً جديداً بدأ يظهر لدى إيران. مناخ يمكن التعويل عليه ولكنّه يبقى غير كافٍ لبناء صورة واضحة وكاملة ونهائية. لذلك فإنّ الدخول في المفاوضات بين «حزب الله» و«المستقبل» يحتاج لكثير من الحَذر والتأنّي.
فقبل تحديد هوية الرئيس المقبل، يجب تظهير الصورة التي سترسو عليها السلطة، بلا إغفال المتغيّرات الهائلة التي تهزّ ركائز دوَل المنطقة والتي لا بدّ أن تصلَ إلى لبنان وتعمدَ إلى تجديد نظامه السياسي:
– التفاهم على سلطة تتولّى رعاية المرحلة الانتقالية بهدوء وتعقّل وحكمة، إضافةً الى توازنات الحكومة المقبلة ومهمّاتها وخطوطها الحُمر وحدودها.
– إقرار قانون جديد للانتخابات ينتج عنه مجلس نيابي ينسجم مع الواقع الاقليمي الدقيق ويحاكي الاحتمالات المفتوحة للمستقبل بما فيها ولادة الجمهورية الثالثة.
– وضعُ الملفات الخلافية الحسّاسة جانباً، مثل سلاح «حزب الله»، الذي يبدأ العمل فيه مع بدء جلسات الحوار في مقابل انضباط أكبر للحزب وإعطاء دور أوسع للجيش اللبناني.
– وصول رئيس للجمهورية قادر على رعاية كلّ هذه البنود وتطبيقها من خلال مُرونةٍ تسمح له بالتواصل مع كلّ الفرَقاء، وأن يشكّل قصر بعبدا مساحة التقاء وتقارُب، لا خط تماس إضافياً على ساحة متفسّخة.
الواضح أنّ الحريري يحضّر الأجواء لعودته الى رئاسة الحكومة. أمّا عون فهو يتحضّر لرفعِ الصوت مجدّداً، وهو المدرك بأنّ الوصول إلى قصر بعبدا يمرّ حُكماً عبر الرابية، فيما سيلعب الباقون دور «الكومبارس»، وهو الدور الذي لازمَهم طوال المراحل الماضية. من أجل كلّ ذلك، يبقى سلاح الاغتيال هو السلاح الوحيد المتاح في يد المتضررين الإقليميين، وهم كُثر، لكسرِ المعادلة الجاري تثبيتها.