لم ينجح خيار «المرشحين الأقوياء» في ملء الفراغ الرئاسي. بل اصطدم بجدران صلبة أطاحت بحلم التربّع على العرش الرئاسي. ومن هنا عاد الحديث مجدّداً: «خيار الرئيس التوافقي هو أكثر الخيارات قرباً إلى رئاسة الجمهورية… ولو بَعد حين!
رعَت بكركي اتفاق مَن سمَّتهم «الأربعة الأقوياء»، واستحال عليها أن تجمعهم على واحد منهم، فعادت وأقرَّت بالفشل، وبأنّ جَمع الأربعة لم يكن الوصفة المناسبة لفتح باب بعبدا، ذلك أنّ أمام كلّ منهم أسباباً مانعة محلية أو إقليمية أو دولية.
ومع ذلك، ما زال بعض المصنّفين «أقوياء» على قناعة بأنّه يملك مفتاح القصر، وحظوظه ما زالت أقوى من كلّ الآخرين.
داخلياً، جرّب سمير جعجع، جلسات انتخابية عدة ولم يوفّق، فخرج من اللعبة. أمين الجميّل متقلّب ما بين الترشيح وعدمه، ويكاد يعترف بأنّ أمله في تكرار التجربة الرئاسية أقرب إلى المستحيل، وبقيَ في الحلبة ميشال عون وسليمان فرنجية، ولكن لا إجماع داخلياً عليهما.
لكلّ منهما قوّة دفعٍ سياسية من الحلفاء القدامى والجُدد، ولكنّها لا توفّر الاكثرية السياسية والعددية المطلوبة، ومع ذلك هما مستمرّان في الترشيح، وصارت المسألة بالنسبة إليهما معركة حياة أو موت بالمعنى السياسي، وليس في وارد أيّ منهما أن يتراجع أمام الآخر أو لصالح الآخر!
خارجياً، قد يَعتبر فرنجية أنّ طريقه أسهل من طريق عون، ما دام يَعتبر أنّ مبادرة سعد الحريري بترشيحه (وإن كانت اهتزّت جراء مبادرة الحريري إلى إعادة فتح الحوار الرئاسي بينه وبين عون) ما زالت قائمة، وتَحظى بغطاء سعودي، وكذلك دولي وأميركي. ولكن ليس هناك ما يبرّر أسباب عجز هذا الغطاء الإقليمي والدولي من أن يترجم نفسَه على أرض الميدان الرئاسي.
أمّا من ناحية عون، فالصورة أكثر تعقيداً، هو يَحظى بتأييد جدّي من إيران تبعاً لموقف «حزب الله»، وكذلك من سوريا رغم ما تعانيه، ولكنّ ذلك ليس كافياً لفتح باب بعبدا. والصورة تشي أيضاً بشيء مِن الغضب من عدم اكتمال فرصِه للصعود إلى بعبدا. سواء حينما ترَأس الحكومة العسكرية بعد عهد أمين الجميّل، وكذلك في أحد أكثر الأوقات ملاءمةً لإمكان وصوله إلى الرئاسة، أي في العام 2008.
ولنعُد هنا إلى الذاكرة. بعد أحداث 7 أيار 2008 وبناءً على الظروف التي استجدّت آنذاك، قدَّم عون نفسَه مرشّحاً قوياً لرئاسة الجمهورية، وهنا ينقل عن أحد كبار المسؤولين أنّه قال على مسمع عون ما حرفيتُه: «نحن المعارضة في «8 آذار» نملك 57 نائباً أي 57 صوتاً هي لك كلّها، فهل تملك القدرةَ على زيادة هذا العدد، إنْ كنتَ تستطيع أن تزيد العدد من 57 صوتاً إلى 58 صوتاً فأهلاً وسهلاً. وإذا لا، فلا بدّ أن نصل إلى مرشّح رئاسي توافقي»… فكانت الدوحة، وجيءَ بميشال سليمان.
الوضع حالياً مشابه لِما كان سائداً آنذاك. لا يستطيع حلفاء عون فتحَ باب القصر، بمعزل عن الناخب الآخر أي السعودية التي لم يتمكّن عون حتى الآن، من اختراق جدارها والوصول إلى قلبها.
يقول مطّلعون: «العاطفة السياسية السعودية تجاه عون مفقودة، نتيجة تراكمات قديمة – جديدة، أحدثت فجوةً كبيرة في علاقة المملكة بعون وجَعلتها في منتهى السلبية، تبعاً لِما يلي:
أوّلاً: رفض عون تلبية دعوة السعودية إلى الطائف حينما دعِي إليه النوّاب اللبنانيون في العام 1989، رغم الإغراءات التي قدّمتها له والتي تحفَظ له من خلالها موقعاً ومنصباً مهمّاً في الدولة. وهي خطوة اعتبرَتها المملكة على لسان بعض المسؤولين فيها «خطأً كبيراً وفادحاً ارتكبَه عون في حقّ نفسِه وفرصةً ثمينة فوَّتها عليه».
ثانياً، رفض عون لـ«الطائف» رغم ما يمثّله للمملكة، واعتباره منتجاً سعودياً يسَيِّد السُنّة دستورياً في لبنان، علماً أنّ عون، ومنذ عودته من منفاه الباريسي طوّر مقاربتَه براغماتياً لهذا «الطائف» وقرّر التعايش معه، لكنّه بقيَ في نظر السعودية عدوّاً لـ«الطائف» وساعياً إلى نسفِه.
ثالثاً، تبعاً لهذا الرفض، ورغم مرور 14 سنة، عاد عون من فرنسا في أيار 2005، مرشّحاً «طبيعياً» لرئاسة الجمهورية، لكنّه في الانتخابات النيابية التي تلت العودة مباشرةً، اصطدم بالتحالف الرباعي ضدّه.
كانت السعودية شريكةً فاعلة في هذا التحالف الذي ضمّ يومها: حركة «أمل» و«حزب الله»، تيار «المستقبل»، وليد جنبلاط، «القوات اللبنانية» و«قرنة شهوان». ربحَ عون نيابياً، إلّا أنّه أقصِيَ عن المشاركة في الحكومة التي تشكّلت آنذاك برئاسة فؤاد السنيورة.
رابعاً، إنتقاله إلى المقلب الآخر، ونسجُ التفاهم مع «حزب الله» في شباط 2006، وكان هذا التفاهم خطيئةً في نظر السعودية، كونه أمَّن مظلّة استراتيجة لـ«حزب الله» الذي صنَّفته السعودية منظّمة إرهابية، وتعتبره عدوّاً لها، وتتحيَّن الفرَص للهجوم عليه وضربِه وصولاً إلى سحقِه.
خامساً، وقوف عون مع «حزب الله» في حرب تمّوز 2006، وفي مشاركته في الحرب السورية، التي تتّهم فيها السعودية الحزب بأنّه عطّلَ ما كانت تهدف إليه في سوريا.
سادساً، هجوم عون الدائم على القبة الحريرية، ومِن خلفها السعودية، وصولاً إلى إعداد كتاب المحاسبة الشهير (الإبراء المستحيل).
سابعاً، هجوم عون الذي اتّسَم دائماً بالقسوة الشديدة على رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري وجملتُه الشهيرة حينما غادر الحريري بيروت بعد سقوط حكومته: «قطَعنا «one way ticket» للحريري، وهو ذهبَ ولن يعود».
ثامناً، إستياء السعودية ممّا اعتبرَته «هجوم عون المباشر عليها بمهاجمته فئةً مِن المسلمين في لبنان»، وهنا يقول عارفون: «إضافةً إلى الهجوم، كان هناك دور لبعض اللبنانيين الذين ساهموا في تأجيج العداء السعودي لعون، والتحريض عليه: «عون ضد «الطائف»، ضد السعودية، ضد السنّة، مع إيران، مع حزب الله، مع بشّار…». ومِن بين هؤلاء من صاروا حلفاء لعون لاحقاً، ولم يبادروا إلى محاولة تحسين الصورة التي رسموها عن عون في السعودية.
تاسعاً، إنفتاح عون العميق على إيران، التي ترى فيها السعودية عدوّاً استراتيجياً.
عاشراً، إنفتاح عون على الرئيس السوري بشّار الأسد، والوقوف في صفّه بشأن الأزمة السورية التي كانت فيها السعودية رأسَ حربة ضدّ الأسد والنظام السوري.
تبعاً لِما تقدَّم، لم تكن نظرةُ السعودية إلى عون إلّا سلبية، لم تفتح أبوابَها له رغم أنّه سعى إلى ذلك أكثرَ من مرّة، ولم يحصل أن زارَها يوماً بشكل رسمي، ما خلا الزيارة اليتيمة التي قام بها عون للتعزية بالملك عبدالله بن عبد العزيز، مع أنّ بعض القريبين منه «المتحمّسين جداً»، فسّروا الحوار الأوّل مع الحريري، وكذلك الحوار الثاني بأنّه بداية تحوُّل سعودي تجاه عون، لكنّ هذا التفسير بقيَ في إطار الكلام لا أكثر.
وأمّا في الموضوع الرئاسي، فإنّ ترشيح فرنجية من قبَل الحريري، سواء أكان ذلك بإرادة المملكة كلّها، أو مِن بعض المستويات فيها، قطعَ الطريق نهائياً أمام عون وأخرَجه من نادي المرشحين، وعون نفسُه قال حرفياً أكثرَ مِن مرّة: «سعود الفيصل يضع فيتو على اسمي». وهذا الرفض لم تُظهر السعودية ما يؤشّر إلى أنّه قد تبدّل أو تعدّل بَعد وفاة الفيصل.
خلاصة الموقف السعودي، كما يؤكّد العارفون: «إنّ وصول عون إلى الرئاسة معناه وصول «حزب الله» وبشّار الأسد وإيران إلى سدّة الرئاسة. وبالتالي فإنّ الفيتو السعودي على عون لم يكن ليبدوَ بهذه القوّة لو لم يكن مستنداً إلى فيتو أقوى، هو الفيتو الأميركي المرتكز على الأسباب السعودية نفسِها.