لم تنجح القيادة السعودية أخيراً في مشروع تثبيتِ استقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية، وربّما أيضاً نقلِ قيادة تيار «المستقبل» إلى شقيقه بهاء، لكنّ أكثر ما هالها من تلك المرحلة هو اكتشافها تضاؤلَ تأثيرها على الساحة السنّية، وأنّها ليست قادرة على الإمساك بمفاصلها.
وهكذا، وبعد عودة الحريري الى لبنان وانسحاب شقيقه بهاء من المعركة عبر بيان مقتضب، بدت القيادة السعودية وكأنّها خسرَت المواجهة، والأهمّ تراجَع تأثيرها، في الحياة السياسية اللبنانية، خصوصاً مع إعلان الحريري من قصر بعبدا تجميدَ قرار استقالته قبل أن يعود عنه.
والأهمّ تلك التظاهرة التي أمَّت ساحة «بيت الوسط» ترحيباً وتأييداً للحريري. يومها ألقى رئيس الحكومة كلمةً حمَلت كثيراً من الانتقاد المبطّن للمملكة، وكأنّه يقول: «أنا الزعيم الفعلي للساحة السنّية ولستُ صنيعة أحد. الشارع شارعي».
منذ ذلك التاريخ انكفأت الرياض عن الساحة اللبنانية، انكفاءً هو أقرب الى إعادة قراءة ومراجعة وجردة حساب، أكثر منه إلى قرار حاسم ونهائي بقطع التواصل.
لكنّ حلفاء المملكة السياسيّين، والذين يتوزّعون بين الساحة السنّية والمسيحية، ألحّوا على القيادة السعودية على إنهاء فترة المراجعة السياسية سريعاً، ووضعِ خطة تحرّكٍ جديدة تُعطي مفعولَها في الانتخابات النيابية التي باتت على الأبواب.
وفي المرحلة التي سبَقت «أزمة الاستقالة» وحين كان الوزير ثامر السبهان يُمسك بالملف اللبناني، تصاعدت الانتقادات السعودية الحادة بعد إعلان الحريري موافقته على القانون الانتخابي الجديد. وجاء في أحد الانتقادات أنّ «الرئيس ميشال عون و»حزب الله» استعملا الحريري للتوصّل إلى قانون انتخابي يَسمح للحزب بالسيطرة على مجلس النواب».
كانت الانتقادات تتصاعَد وبلغَت ذروتها مع اعتبار المسؤولين السعوديّين أنّ هذا «القانون المِسخ سيَسمح بإعطاء «حزب الله» غالبيّةً نيابية من دون كتلة النائب وليد جنبلاط». وكانت «تغريدات» السبهان تحضّ الحريري على مواجهة «حزب الله» لا تأمين الغطاء له.
في المقابل كان الحريري ينقل وجهة نظرِه الصريحة أمام أصدقاء مشتركين من خلال عرضِه لواقع المنطقة، بدءاً من العراق ومروراً بسوريا وانتهاءً بلبنان. حيث جرى إبعاده عن رئاسة الحكومة منذ العام 2011 من دون القدرة على إعادته الى بيروت وإلى دائرة القرار إلّا بعد تسوية مع «حزب الله»، إضافةً إلى أنّه وتيارَه يعانيان من أزمة ماليّة خانقة جعلته عاجزاً عن دفع الرواتب المستحقّة للموظفين وجعل المؤسّسات العاملة تحت كنفه مهدّدة بالتوقّف.
وكان الحريري يُنهي قراءته للواقع اللبناني بالقول إنّ المواجهة تعني مسألةً واحدة: «تعميق الخسارة، أمّا التهدئة فستؤمّن شراء الوقت والتقاطَ الأنفاس وبالتالي السماح بإعادة تنظيم الصفوف والتحضير للمرحلة اللاحقة».
ومع غياب السبهان عن المشهد اللبناني، اعتقَد كثيرون أنّ الرياض وضَعت الملف اللبناني جانباً. لكن خلال الأسابيع الماضية ثمّة شيءٌ ما تبدّلَ، ولو أنّه لم يصل بعد إلى مستوى خطة العمل. فباتت الرياض مهتمّة بالاستحقاق النيابي اللبناني، وهو ما ظهَر مع تسلّمِ سفيرها الجديد في لبنان مهمّاته ومباشرته بإجراء اللقاءات والاجتماعات مع مختلف القوى القريبة من المملكة.
كما أنّه من المفترض أن يزور لبنان مسؤول سعودي، هو المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا، والذي بات يتولّى الملفّ اللبناني للقاء مختلف القيادات اللبنانية. وفيما لم يطلب السبهان في آخر زيارة له إلى لبنان موعداً للقاء رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي، فإنّ السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كان العلولا سيطلب موعداً من قصر بعبدا أو من عين التينة، وهو ما لم يحصل حتى الآن.
والأهمّ تلك الدعوات التي جرى توجيهها إلى شخصيات سنّية سياسية وروحية لزيارة السعودية في مطلع شهر شباط المقبل، وهو الشهر الذي شهد اغتيالَ الرئيس رفيق الحريري.
لكن قبل ذلك ستطلب السعودية من تيار «المستقبل» أن تشكّل محطةُ الانتخابات النيابية فرصةً للتوازن مع «حزب الله»، وأنّ التحالف مع «التيار الوطني الحر» من خلال لوائح مشتركة يناقض فكرةَ التوازن مع «حزب الله» لا بل يُعمّق الخللَ الحاصل في التوازن.
وإزاء توقّعِ المسؤولين السعوديّين تمسُّك الحريري بالتحالف الانتخابي مع «التيار الوطني الحر» بحجّة أنّه بات في الحكمِ وأنّه ابتعَد مسافةً لا بأس بها عن «حزب الله»، وأنه لم يعُد في خانته، فسيكون جواب الرياض بأنّ هذه الحجّة غير مقنِعة، ولكن في حال صحّت فإنّ ذلك لا يَمنع من حفظ مكانٍ للقوى الصديقة للمملكة بدلاً من تركِ اللوائح مقفلةً على «المستقبل» و«التيار الوطني الحر» فقط دون سواهما.
وربّما استباقاً لذلك، أجرى تيار «المستقبل» و»التيار الوطني الحر» انفتاحاً مفاجئاً على «القوات اللبنانية»، ولكن هل المناخُ السعودي يَقتصر على «القوات اللبنانية» فقط؟
ويقال إنّ السعودية، وفي حال عدم التفاهم مع الحريري على رؤية انتخابية مشتركة حول تشكيل اللوائح، ستوسّع دعواتها لزيارة الرياض، وستفتح أبوابَ الدعم المالي لهذه القوى السياسية التي ستخوض الانتخابات في مواجهة «حزب الله» وحلفائه.
في المقابل، سمعَ الحريري في باريس، وكذلك مدير مكتبه نادر الحريري الذي زار الولايات المتحدة الأميركية سريعاً، ضرورةَ عدمِ توسيع الفجوة الموجودة بين الحريري والسعودية، وأنّ من الأفضل إعادة ترميم العلاقة وتجاوُز أضرار محنة «الاستقالة».
صحيح أنّ الحريري يُدرك بأنّه يُمسك بورقةٍ قوية وهي عدم وجود بديلٍ أو حتى منافسٍ جدّي له على الساحة السنّية، ولكنّ العواصم الغربيّة لا ترى حكمةً في استمرار سياسة التناقض، وربّما التحدّي، بينه وبين الرياض.
ذلك أنّه قبل أيام معدودة من سفر الحريري إلى باريس ومدير مكتبه إلى واشنطن، سُجّل موقف اعتراضي للحريري من خلال صحيفة «وول ستريت جورنال» وترافقَ مع كلام للوزير جبران باسيل اعتبَر فيه أنّ زمن التدخّل في الشؤون اللبنانية ولّى. لكنّ النصائح الغربية أعادت تدويرَ الزوايا.
وفجأةً تحرّكت قنوات التواصل بين «بيت الوسط» ومعراب، وهي باتت تُنبئ بلقاء قريب بين الحريري والدكتور سمير جعجع. وفي هذا التوقيت، برَزت ملاحظات على قانون الانتخابات وسرَت أجواء عن احتمال وصول الأمر إلى تخيير الناس بين تأجيل الانتخابات بسبب الخلاف حول إقرار التعديلات وبين إجراء الانتخابات وفق الستّين في ما يشبه «دغدغة» السعودية. لكنّ اعتراضَ «حزب الله» الحاسم أعاد بوصلة الانتخابات إلى القانون الحالي كما هو في الوقت المحدّد لإجرائها.
على مستوى التواصل بين «بيت الوسط» ومعراب، ما زال الكلام حول إزالة رواسب المرحلة الماضية وتوضيح المواقف، ولكنْ لا كلام بعدُ حول التعاون الانتخابي، ربّما في انتظار حصول تقدّم على هذا الصعيد بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية»، حيث فُتح الملفّ ولو أنّه لا يزال في بداياته.
المطّلعون على هذا المسار يعطون مهلة أسبوعين لتبيانِ ما إذا كان سيحصل اتّفاق أم لا.
«التيار الوطني الحر» يعرض تعاوناً مع «القوات» في دائرتين، البترون وزحلة، فيما «القوات» تطمح لتعاونٍ شامل على مستوى كلّ الدوائر. ولكن إذا لم يكن ذلك متيسّراً، فإنّ «القوات» موافقة على درسِ الوضع الانتخابي لكلّ دائرة انتخابية لوحدها.
في هذا الوقت، توقّفت الاتصالات بين «القوات» و»الكتائب». وعلى رغم النفي الذي صَدر فإنّ اجتماعاً كان جارياً التحضير له بين الحزبين لدراسة التفاصيل الانتخابية.
لكنّ الانفتاح «المفاجئ» بين «التيار» و«القوات» صَدم القيادة الكتائبية التي وجَدت «مراوغة» قوّاتية، وعدمَ التزام بالمواقف، وحساباتٍ انتخابية، لا التزام بمبادئ وشعارات مرفوعة.