بهدوء |
صدر كتاب «إدارة التوحّش: أخطر مرحلة ستمرّ بها الأمة» من تأليف أحد منظّري السلفية الجهادية، أبو بكر ناجي (اسم حركي)، في وقت مبكر من السجالات في صفوف «القاعدة»، بعد «غزوة نيويورك» (11 أيلول 2001)، حول السبل الأنجح لاستعادة دولة الخلافة التي انهارت، بالنسبة للمؤلف، مع انهيار الدولة العثمانية، ونشوء نظام سايكس ـ بيكو، وتالياً نظام القطبين السوفياتي والأميركي، واحتجاب حركية الإسلام، بسبب استقرار الدول وخنوع الشعوب وبطش الجيوش، ولكن، بالدرجة الأولى، بسبب غياب الاستراتيجية القائمة على اتباع «السنن الشرعية والسنن الكونية» في كفاح الإسلاميين الذين، على قوتهم ووجود كتل جماهيرية تتبعهم، فشلوا، لحساب أقليات سياسية مثل تنظيم «الضباط الأحرار» في مصر والبعثيين في سوريا والعراق.
لا يحفل الكتاب بالسنن الشرعية إلا في نقاشات فرعية. فتركيزه على السنن الكونية التي تحدّد سبل نجاح الحركة الإسلامية في استرداد الخلافة. وتحاكي هذه السنن الاستراتيجيات الميكافيلية واللينينية والماويّة وأساليب الإدارة الأميركية الحديثة معاً. إلا أن مؤلّف الكتاب لا يذكر هذه الاستراتيجيات بالاسم، لكن من الواضح أنه ملمٌ بها، وهو، رغم أنه يعتبر الإيمان بحتمية الانتصار عاملاً أساسياً، إلا أن اقتراحاته الاستراتيجية والتكتيكية تقوم على فهم مادي لتاريخ المجتمعات، ما مكّنه، في مطلع الألفية، من استكشاف «المرحلة المقبلة»، بوصفها مرحلة ستنشأ، خلالها، مناطق فوضى متوحّشة، ينبغي على «المجاهدين» السيطرة على هذه المناطق وإدارتها وتوسيعها. وستؤول التوسعات وتعدد مناطق السيطرة إلى مسار التمكين للخلافة الإسلامية.
يتوقّع مؤلف الكتاب نشوء مرحلة التوحّش ويتمنّاها، أولاً، لأن «أفحش درجات التوحّش أخفّ من الاستقرار تحت نظام الكفر»، وثانياً، «لأننا إذا نجحنا فيها، فهي المعبر نحو الدولة الإسلامية المنتظرة منذ سقوط الخلافة».
وهكذا، ليس على «المجاهدين» انتظار نشوء التوحش تلقائياً، بل التسريع به من خلال تكتيك ضربات «النكاية والإنهاك»، واستجرار التدخل الغربي. ولا يذكر مؤلّف الكتاب، الصراعات المذهبي والطائفي والاتني، كعوامل مساعدة أساسية في نشوء مناطق التوحش، ربما كونه من جيل ما قبل أولوية الجهاد ضد الشيعة والفرق الإسلامية الأخرى، لكن تسعير تلك الصراعات ينسجم، واقعياً، مع استراتيجيته، بل إنه يشير إليها، ضمناً، في شروطه للنجاح في إدارة مناطق التوحّش؛ فمن بينها العمق الجغرافي والمدّ الإسلامي (وهو، عنده، مدّ طائفي بالضرورة)، ثم طبيعة المجتمعات المحلية التي تتقبل إدارة «المجاهدين» لمناطقها. وفي هذا الشرط، نجد السبب في تركيز «داعش» على المناطق البدوية ذات الأكثرية الطائفية المساندة.
وفكرة المؤلف الأساسية هي أن أهالي مناطق التوحش، يميلون، بالفطرة، إلى وجود قوة حاكمة واحدة في مناطقهم، يخضعون لها، وتحميهم من فوضى التوحش، وتسيّر شؤون الحياة اليومية، وتضبط الأمن بالعنف الخ. وهو يضرب أمثلة على تلك الفطرة في نشوء الدولة الإسلامية التي قامت على إدارة التوحش القبلي في الجزيرة العربية غير الخاضعة لأي امبراطورية مركزية، كذلك في نشوء مناطق سيطرة التنظيمات اليسارية في أميركا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات.
يستند مؤلّف الكتاب إلى جملة من الطروحات المعروفة في حرب العصابات؛ «فالجيوش النظامية، إذا تمركزت، فقدت السيطرة، وإذا انتشرت، فقدت الفعالية»، و«الضرب بقوة في أكثر مناطق العدو ضعفاً»، وتراكم الانتصارات الصغيرة، وإنشاء استخبارات فاعلة، إلا أنه يبالغ في عنصر النجاح الخاص بـ «اعتماد الشدّة» وإثارة الرعب والسير في طريق «الأشلاء والدماء والجماجم». وهو يسخر، هنا، من الإخوان المسلمين، ومن كل متّبعي النهج السلمي والمؤسساتي والدعوي من الإسلاميين. ومن الواضح أن فشل الإخوان في مركزهم المصري، سيدفعهم نحو التفكير في حجج المؤلف ضدهم.
يشير مؤلّف الكتاب إلى عدة وقائع تاريخية تثبت نظريته في العنف كطريق للنصر؛ ولكننا سنركز على مثال مهم. فقد أرجع المؤلّف انتصار الثورة العباسية وفشل الثورة الشيعية بقيادة النفس الزكية، إلى أن الأولى اعتمدت الشدّة، بينما اعتمدت الثانية «اتقاء الدماء».
وسفك الدماء ضروري لبثّ الرعب، وامتثال أهالي مناطق التوحش لإدارة التنظيم، وتوجهاته، واخراس المعترضين، وتأليف سواهم بالمال، وبسط السيادة، وتوطيد الايمان، والحصول على المزيد من المقاتلين.
ومن شروط النجاح الكبرى عدم التقية والمجاهرة والحسم واستخدام وسائل الإعلام في إظهار عدالة القضية وقوة القائمين عليها وبطشهم. وهكذا، فإن اعتماد تنظيم «داعش» على النشر الإعلامي المكثف لأفكارهم العارية من كل تجميل، وتصوير عملياتهم الإجرامية، وبثها، واستهداف هيبة الدولة والجيوش، كلها إجراءات مقصودة.
وبعد؛ فلا أتحدث عن مؤامرات، وإنما عن سياقات جمعت بين هذه الاستراتيجية وتكتيكاتها، وبين، أولاً، الاستراتيجية الأميركية لضرب الدول العربية المركزية تحت عنوان بناء الديموقراطية ـ وما تبع هذه الاستراتيجية، من روافد الليبراليين، خصوصاً من «اليساريين» و«القوميين» السابقين، وثانياً، استراتيجية «إخوان» تركيا العثمانية بقيادة أردوغان، الطامحة إلى استعادة السيطرة على الهلال الخصيب، ثالثاً، الاستراتيجية السعودية ـ والخليجية ـ لتسعير الصراع السني ـ الشيعي للإبقاء على امتيازات العائلات الحاكمة، رابعاً، الاستراتيجية الإسرائيلية في ضرب محور حزب الله ـ دمشق، واضعاف إيران.
لقد تلاقت هذه الاستراتيجيات كلها في «الثورة السورية» التي نهجت نهج إقامة مناطق فوضى متوحشة، كان تنظيم «داعش» في انتظارها.