أخرج الترمذي وأحمد وصحح الألباني حديثاً عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم اليوم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، من ترك عُشْرَ ما يعرف فقد هوى، ويأتي من بعد ذلك زمان: كثير خطباؤه، قليل علماؤه، من استمسك بعُشْرِ ما يعرف فقد نجا»، وعن ابن مسعود قال: «إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ: كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ خُطَبَاؤُهُ، قَلِيلٌ سُؤَّالُهُ، كَثِيرٌ مُعْطُوهُ، الْعَمَلُ فِيهِ قَائِدٌ لِلْهَوَى. وَسَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكُمْ زَمَانٌ: قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ، كَثِيرٌ سُؤَّالُهُ، قَلِيلٌ مُعْطُوهُ، الْهَوَى فِيهِ قَائِدٌ لِلْعَمَلِ، اعْلَمُوا أَنَّ حُسْنَ الْهَدْيِ – فِي آخِرِ الزَّمَانِ- خيرٌ مِنْ بعض العمل» [أخرجه البخاري في الأدب المفرد- بَابُ الْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ – الجملة الأخيرة أوردها الحافظ في «الفتح» (10 /510)]، صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولعمري كيف النجاة في زمن الشرّ والقتل بفتوى شرعيّة!!
في المشهد الإسلامي اليوم تتظهّر إسلامات مخيفة، «إسلامات» متعدّدة الوجوه وكلّ واحد منها يدّعي أنّه الإسلام، وعامة المسلمين مأزومين، أيّ إسلام هو الصحيح بل أيّ إسلام هو الذي جاء به نبيّ الله ورحمته للعالمين محمّد رسول الله صلوات الله عليه، والمؤسسات الإسلامية الكبرى في أزمة، عمليّاً هي مؤسسات تخضع الفتوى فيها لسياسة الحاكم، وحتى لا نكذب على القارىء بين هذه المؤسسات صراعات كبرى تندلع عندما تتواجه دولها، فيخرج فيها كلّ ذي عمامة فتوى من «كمّه» يتأوّل فيها حديثاً نبويّاً شريفاً أو آية قرآنيّة جليلة، ويضيع الناس وسط هذا التجاذب الشرعيّ والدينيّ، وتسخّر المنابر للدعاء على هذا الحاكم أو ذاك، بل تسخّر أحياناً لتضليل بسطاء المؤمنين!!
وتكمنُ مشكلةُ المسلمينَ الحقيقيّة والكبرى اليوم في من يطلقون على أنفسهم اسم «الداعيّة»، هؤلاء يفتحون أبواب الشرّ والتضعضع في صفوف المسلمين ويتلاعبون بعقولهم، وفي الفضائيّات التي تفتح الهواء ليل نهار مطلقة العنان لهؤلاء في أكبر عمليّة تضليل وتشويش للمسلمين، لا تجد من يردعها طالما هي تعمل في هوى الحكّام وتشرعن سلطتهم!!
وتكمن مشكلة المسلمين الكبرى في «الفقهاء» المتخاذلين عن حمايةِ المسلمين بتوعيتهم، وبالإعلان ملء الفم والصوت والعقل بأن «الإرهاب» كفرٌ صريحٌ، وأنّ هؤلاء الإرهابيّين الهمجِ ليسوا بمسلمين، أما الحديثُ عن «فئةٍ ضالةٍ» أو «باغية»، فهذا أمر إلهيٌّ قرآني يفصلُ في اختلاف فئتيْن مسلمتيْن، أما إزهاقُ الأرواح وقطع الرؤوس فهذا كفرٌ بحت، يُخرجُ من الدّين والمِلّةِ ومن الإنسانيّة أيضاً…
المسلمون في محنة كبرى، ابتعد الزمن، وطال العهد، وتصدّى وتصدّر للناس الجهلة، يقرأون بضعة أحاديث فيقعدون للناس في كلّ صراط ، بلغ بهم الأمر وقاحة أن يجعلوا الذات الإلهيّة حديثاً يلوكونه للعوامّ، فيما في القرن الخامس الهجري يوم كان هناك علماء أخرج الإمام أبو حامد الغزالي للناس كتابه «إلجام العوامّ عن علم الكلام»، ويتصدّرون لتفسير القرآن وكلّ يتأوّل ويقول على الله وكتابه تفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان، وأسوأ من هؤلاء من يسبق إسمه تسمية «المحدّث»، فيفسّر فهمه للحديث الشريف، والمحزن أنّ هذه كلّها تصبح مقدّسة فيتمسّك الناس بهذا القول أو ذاك ويتركون الآية والحديث، وينقادون كالنعاج العمياء معطّلين عقولهم، ولا تجد ذا عمامة رحب الصّدر فإذا ما حاولت أن تزيد في السؤال غضب وطالبك بالتسليم الأعمى لما يقول مقدّساً فهمه الشخصيّ على النصّ المقدّس!!
في الأمة علماء كثيرون، مطلوبٌ منهم اليوم الخروج للناس، ومخاطبتهم بسماحة التنوير، لم يعد محتملاً أن يتصدّر أهل الجهل المشهد الإسلامي، وندرك أن هذا التصدّي ليس سهلاً في مواجهة فئة كاسرة شرسة أوّل ما ستفعله هو تكفير هؤلاء العلماء، ولكن في كلّ قرنٍ من قرون الإسلام تعرّض علماؤه لاضطهاد من الحاكم ومن الناس ومن الذين يحسدونهم على ما فتح الله به عليهم من العلم اللدّنيّ، اللهم نسألك السلامة من زمن الفتن والشرور، اللهم اكفِ المسلمين شرّ عمائم باعت الدّين بالسلطة والمنصب، وكذبت على الإسلام والمسلمين، وأوصلتنا إلى هذا الدّرك من التشرذم والانهيار.