Site icon IMLebanon

لنُسقط الجنرال والاستاذ… فالوقت ثمين لإنقاذ لبنان

 

 

 

لاحت في أفق لبنان انواء عاصفة مخيفة، تتكثف فيها أزمة شاملة بوجوهها الاقتصادية والمالية والنقدية، وطالت الأزمة كل شعب لبنان، بفئاته ومناطقه كافة، ونالت من حقوقه الأساسية بحياة كريمة ومستقرة، وشعر اللبنانيون بخطر داهم يهدد نمط عيشهم وأعمالهم، اضافة الى تعثر تأمين مستلزمات عائلاتهم اليومية.

شهد لبنان ظاهرة اضافية غير مسبوقة في تاريخه، وارتكابات تخالف قانون النقد والتسليف، وهي امتناع نظامه المصرفي عن الايفاء بالتزاماته تجاه مودعيه وحقوق زبائنه، فيما تبدى خطر جدي يطال مدخرات اللبنانيين وودائعهم، وتهاوى سعر العملة الوطنية اللبنانية أمام الورقة الخضراء بنسب وصلت الى 40 % من قيمتها، فيما ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية باكثر من نسبة تدني عملتهم الوطنية، وتقلصت بشكل كبير تحويلات واعتمادات التجارة الخارجية فتأثرت قطاعات الطبابة والاستشفاء واضطربت امدادات تزويد الاستهلاك بالطحين والوقود والغاز المنزلي، كما تدنت القدرات الشرائية لرواتب العاملين والموظفين الذين يتقاضونها بالليرة اللبنانية.

 

وكان قد سبق مشهد الانهيار هذا، انكشاف سلسلة متتالية من ملفات الفشل في ادارة مرافق الدولة وخدماتها العامة سواء بسواء: في الكهرباء والاتصالات والطرق وأنظمة السير والنفايات المنزلية واطفاء الحرائق، كما في شبكات مياه الشفة في المنازل، أو شبكات الصرف الصحي، وهي ملفات سادها غياب جودة المواصفة وافتقاد كفاءة الخدمة مع ارتفاع التكلفة وغلاء أسعارها.

 

في موازاة ما تقدم استمر الاستيلاء على الأملاك البحرية والنهرية، وتمادى أمراء الميليشيات في تحويل أموال المؤسسات العامة في الريجي ومصالح المياه والمرفأ والكازينو وشركات انترا وأوجيرو الى تنفيعات تدفع لحاشياتهم، وتلوثت البيئة والأنهار واستبيحت جبال لبنان بالكسارات والمقالع، وأصبح التهرب الجمركي ومعابر التهريب الحدودية نظام عمل شامل يقيم اقتصاداً أسود موازياً يقتطع 30% من السوق اللبنانية ويضعف الاقتصاد الشرعي، ويستنزف موارد خزينة الدولة وماليتها العامة. الفشل في ادارة مرافق الدولة لعدم الكفاءة، الاثراء من السلطة وسرقة الأموال والممتلكات العامة، واستغلال الصفقات العمومية وتعهدات الدولة ومشاريعها لصرف النفوذ والتربح من المنصب العام، والعبث بأموال البلديات وأملاكها، والتلاعب بأرصدة الضمان الاجتماعي وصناديق تقاعد العاملين في القطاع العام، وهدر موارد الدولة في عمليات فسادٍ، يتقاذف الاتهامات بارتكابها، أطراف السلطة السياسية، بشكل دوري ومتبادل، وممارسة الزبائنية السياسية وتحويل الادارة الى دولة محاسيب غير منتجة ومتضخمة، بعد تجاوز معايير قانون الموظفين و صلاحيات مجلس الخدمة المدنية، لتشكل هذه الادارة عبئاً على الموازنة العامة والتمادي في عدم حل معضلة عجز الكهرباء، واتباع سياسة نقدية تعتمد استجرار الودائع والتحويلات الخارجية بفوائد عالية الكلفة، لتمويل عجز مزدوج مستمر ومتراكم في موازنات الدولة السنوية من ناحية أولى، وفي ميزان المدفوعات الوطني من ناحية ثانية، وعلى مدى سبع سنوات متوالية، ممارسات جعلت كل من تبوأ شأناً عاماً، موضوع مساءلة أو تهمة.

 

وقد سهل هذه الارتكابات وعممها، استتباع القضاء من قبل نافذي السلطة والأحزاب الطائفية، مع تقليص متعمد لأدوار أجهزة الرقابة والمحاسبة العمومية، من ديوان المحاسبة الى التفتيش المركزي مالياً كان أو ادارياً، كل ذلك أوصل الى كارثة شاملة.

 

خلل سياسي في بنية السلطة

 

لم يكن هذا السلوك الذي خلخل بنيان لبنان وهيكلياته، ممكناً أن يحدث أو أن يتمادى ويستمر، لولا الخلل السياسي في بنية السلطة ومؤسساتها السياسية والدستورية وفقدانِ الدولة لسيادتها على حدودها وداخل حدودها، ولولا الامعان في ممارسة الحكم من خارج المؤسسات الدستورية تارة بتعطيلها وأخرى بتطويعها، وذلك عبر انتهاكٍ واضحٍ للقانون والدستور، وباللجوء الى القوة السافرة أو التهديد بها، لتعديل موازين القوى السياسية وتشويه النظام البرلماني اللبناني، ولَيْ عُنقِ النصوص الدستورية والقانونية، بغرض فرض غلبةٍ سافرة، تجعل من لبنانَ جرماً في منظومة الممانعة الاقليمية. تأسس هذا الامر خلال الوصاية السورية واستمر بوضوح بعد اتفاق الدوحة وانتقال لبنان الى وصاية أخرى.

 

في الموقع الجيوـ سياسي الجديد هذا، فقد لبنان دوره التقليدي كمركز اقليمي للاستثمار والخدمات والتسوق والسياحة، بعد أن تَحوّل متراساً متقدماً لفيلق القدس الايراني في حروبه الاقليمية، وفقدت بيروت ريادتها في عالم الثقافة والاستشفاء والاعلام والفنون والتعليم العالي، وترنحت قطاعات لبنان الانتاجية، وفقد الاقتصاد اللبناني القدرة على خلق فرص عمل كافية لاستيعاب موارده البشرية والكفاءات العالية لشبابه، وخسر ميزان المدفوعات اللبناني، فائضه التقليدي منذ استقلال لبنان، تحت وطأة المأساة السورية وتداعياتها، وداخل عزلة صنعها انفصال سياساته عن خيارات مداه العربي وصداقاته الدولية التقليدية.

 

في مواجهة الواقع هذا، انفجرت انتفاضة شعبية شاملة وتصاعدت الى شبه ثورة، انتفاضة لا تتناول فقط تعديل موازين القوى في السلطة، وتبديل غلبة طائفية حزبية بغلبة أخرى، وهي لعبة أجادت احزاب السلطة استغلالها وجعلها صمام أمان لاستمرارها، بل هي ثورة تهدف الى اسقاط السلطة كلها، وطرد أحزاب الطوائف من الحكومة، وتصبو الى تغيير عميق، يرسي مجموعة من القيم الجديدة التي تم اطلاقها على كل لسان في كل ساحات الحراك. هذه القيم هي:

 

1 – نبذ الطائفية وتبني المواطنة لبناء دولة القانون والمؤسسات والدولة المدنية.

 

2 – ادانة الفساد كجريمة بحق الوطن والناس والدعوة لاستعادة الأموال المنهوبة.

 

3 – ادانة العنف والالتزام بالثورة السلمية وعدم ممارسته، حتى لو تعرض الثوار لعنف مقابل.

 

4 – اعلان الخروج من عباءة الزعيم، وادانة أحزاب السلطة الحاكمة، والتبرؤ منها ومنعها من الانخراط بالحراك وقبول قواعدها كأفراد تخلوا عن أحزابهم.

 

ظاهرتان اضافيتان واعدتان في بنية الانتفاضة وقواها أكدتا مشاركة المرأة بشكل طليعي وتصدر الشباب من الجيل الجديد لوضع أجندة الثورة وشعاراتها.

 

بعد 12 يوماً، من اندلاع الانتفاضة، قدم الرئيس الحريري استقالة حكومته، استجابة لتحقيق مطالب الحراك بقيام “حكومة كفاءات مستقلة” من خارج أحزاب السلطة، فيما أعلنت القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي عدم رغبتهما في المشاركة في الحكومة العتيدة.

 

“8 آذار” والثورة

 

يقول مثل فرنسي: “عندما يشير الاصبع للقمر، ينظر الأحمق إلى الاصبع” – “Quand le doigt montre la lune, l’imbécile regarde le doigt”.

 

لم تفهم قوى 8 آذار وراعيها الأقليمي معنى ثورة شعب لبنان أو لم ترد أن تفهم، وهي ثورة وضعت أجندة متدرجة، لكنها شاملة، لتغيير كامل في السلطة، وطرد احزاب الطوائف من جنة الحكم، ولم تدرك أيضاً سبب تعفف الأطراف الأخرى عن المشاركة بجنة السلطة، بل وجدت في انكفاء القوى السابقة في 14آذار، فرصة يجب استغلالها للتفرد بالحكم وزيادة حصصها ومكاسبها وصلاحياتها. ففي الوقت الذي كانت ساحات لبنان ترنو بأعين آلاف الثوار فيها الى حكومة تنتشل لبنان من أزمته وتُجَنِّبَه كارثة الجوع والافلاس والانهيار، كانت عيون الجنرال ميشال عون أم الوزير جبران باسيل تفتش عن كيد يعاقب الرئيس الحريري على استقالته، وعن مقاعد وزارية تزيد لباسيل حصته. خلال ثلاثة أسابيع تلت الاستقالة، أمعن رئيس الجمهورية، بالتنكر لقسمه وواجباته الدستورية، وارتكب مخالفة أولى، بعدم تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة، في سابقة لم تسجل في تاريخ تأليف الوزارات في لبنان وفي تسمية رئيس حكومة جديدة لا قبل اتفاق الطائف ولا بعده، فإلزامية الاستشارات النيابية تكون إلزامية توقيتاً وإلزامية اجراءً وإلزامية نتيجة، ثم خالف الدستور ثانيةً، حين حاول تأليف ثلاث حكومات متتالية؛ واحدة مع الصفدي وأخرى مع طبارة وثالثة مع الخطيب قبل تكليفهم.

 

فالتأليف أمرٌ ليس من صلاحياته، بل مهمة رئيس الحكومة المكلف، وأما التشاور مع رئيس الحكومة بشأن التركيبة الوزارية فيجري بعد الاستشارات والتكليف وليس قبلهما، وما جرى من مناقشات مع رؤساء الحكومة المحتملين غير المكلفين كان أقرب الى ابتزاز أو قيود توضع في معصمي رئيس الحكومة قبل تكليفه، وهو بممارسته هذه، يتجاوز أصول نظام الديموقراطية البرلمانية (التشاركية)؛ حيث أكثرية مجلس النواب هي من تعطي الشرعية، وهي من تقرر من يسمى رئيساً للحكومة ويكلف تشكيلها، ثم بعد ذلك تولي الحكومة الثقة او تحجبها فتسقط الحكومة.

 

بعد طول انتظار، واضاعة وقت ثمين ضروري لوقف تداعيات الأزمة، ولصياغة حلول تحد من تفاقمها، في سلوك لا يعكس أي مسؤولية وطنية أو احتكام لضمير نزيه، تمت تسمية د.حسان دياب لتشكيل حكومة، وهو تكليف تجاوز مقولة “الميثاقية” التي تم تبنيها وتحكمت بالحياة السياسية وعمليات اعادة تكوين السلطة منذ 2006 وحتى تاريخه، هذه الميثاقية المزعومة والذرائعية، أنتجت في ما أنتجت حقاً من دون وجه حق، لممارسة فيتو من أحزاب الطوائف في مجلس الوزراء، وحق الترشيح الحصري في مناصب الرؤساء الثلاثة، للأقوى في طائفته، ووسمت قانون الانتخابات الأخير بميسمها، وقيدت تشكيل الحكومات بمنطوقها، وأفسدت الديموقراطية البرلمانية التشاركية التقليدية القائمة على أساس الميثاق الوطني، وشجعت تنامي ثقافة عنصرية أقلاوية، وظيفتها تبرير الخروج عن الدستور وانتهاك أصول اللعبة الديموقراطية. بأكثرية 69 صوتاً تم اصدار مرسوم جمهوري بتكليف دياب تشكيل حكومة لم تر النور حتى اليوم، وهو مرسوم يشبه عقد زواج شرعي لاحق، صدر تغطية لفعل اغتصاب سابق. سقطت الميثاقية واصبحت ماضياً عسى أن يستمر منسياً، وظهرت كتلفيقة فكرية تنطلق من حيثيات “تحالف الأقليات” بقيادة ايران، وتموّه الاذعان لـ”حزب الله” والخضوع لاملاءات سلاحه.

 

لم يكن ينقص لبنان لتشديد الخناق على شعبه وارساله الى هاوية مجهولة القاع، سوى انفجار المواجهة بين أميركا وايران في العراق، بعد قيام ادارة الرئيس الاميركي ترامب باغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، والتي وضعت لبنان على جدول أعمال الثأر لسليماني، بعد أن أعلن السيد نصرالله انخراطه هو ومحوره فيها، وجر لبنان شعباً وموقعاً اليها، وبعد ان استجاب لاستراتيجية الولي الفقيه بتولي انهاء الوجود والنفوذ الاميركي في المنطقة.

 

على مفترق هذه الخيارات تتفاقم كارثة لبنان وتتعمق بين خيارات متناقضة لا تصالح أو تساكن بينها:

 

فاما حكومة لون واحد من 8آذار، تجري فيها محاصصة حاملي شهادات جامعية، ويخضعون بقراراتهم وخياراتهم لأحزابها، ويتجاذب موازينها صراع بين بري وباسيل حول ثلث معطل مفترض، فيما مطلب الثورة وفرصة انقاذ لبنان تتطلب حكومة مختلفة عنها، تتألف من كفاءات مستقلة وترسل أحزاب السلطة الى اجازة قسرية. كما يتطلب هذا الانقاذ الخروج من محور الممانعة الى موقع النأي بالنفس الفعلي، والتزام “حزب الله” به، مما يسمح بتأهيل لبنان ليعود الى كنف الاحتضان العربي والدولي، ويمكّنه من الاستعانة بدعم دولي وعربي يخفف تداعيات الأزمة ويلطف خسائرها و آلامها. في هامش الارتباك بين هذه الخيارات، يقوم “حزب الله” بأخذ وقته مترقباً ومستكشفاً ملامح الحدث الأقليمي، ليختار أما الذهاب الى الاضطلاع بدور رأس الحربة لكنس النفوذ والوجود الاميركي في المنطقة، وفي حال هذا الخيار يصبح وجود د. حسان دياب ليس كافياً للمهمة تماماً كخيار، أما في حال هدوء العاصفة الاقليمية فليس دياب هو أفضل الخيارات عند “حزب الله” لتنظيم نزوله عن شجرة تورطه الاقليمي. في كلا الحالتين يلهو باسيل والجنرال عون، بإضاعة وقت ثمين وغال على وطن ضاع مصيره بفساد حكامه وتبعيتهم لأسيادهم في الخارج.