ـ ١ ـ
لم يعد الأمر مجرد بارانويا…
نعيش استعراض الجحيم بكل ما أنتجه التواطؤ الكبير مع أنظمة أدمجت الاستبداد والفساد، وأنتجت «فانتازيا» رومانتيكية… تتحطم اليوم قطعة قطعة… وعبر «فقرات» من العبث المطلق الذي يضع كل القيم والأخلاق التي تربت في «مصانع» البروباغندا على المحك…
تأمل هذه الحكاية مثلاً: نائب مصري في البرلمان يستقبل السفير الإسرائيلي في بيته، ويتجول معه في قريته بمحافظة من محافظات الدلتا…
النائب شهير منذ أن تم تصنيعه في معامل الأجهزة المحترفة، ليكون صوتاً شعبياً في «هجاء» الثورة… كان «أضحوكة» ثم صار «عرّافاً» يستخرج طالع الأحداث من حيث تتخمر في الغرف المغلقة… وصار «نجماً» لدى قطاعات لم تسمع «نبرتها» الفلاحية من قبل إلا في برامج التوجيه الزراعية…
النجم صار قاذفة شتائم، وزعيماً يتحرك بالمريدين، إلى أن اعتبر نفسه بطل «الثورة» على الإخوان وشريك المشير السيسي في «إنقاذ» مصر… إلى هنا كانت الضحكة تختلط بالغضب من «اللعب في العقول» عبر «العرائس المسلية» التي تفكك الخطاب السياسي إلى «خرافات عن مؤامرات الماسونية العالمية..» و «نميمة عن سيَر شخصية»… وحشر الفراغ بالألعاب المدمرة للعقل… ومع التجريف الذي صاحب «إخلاء المجال السياسي» أمام السيسي حصلت «دمية الأجهزة» على مقعد في البرلمان بشعبية جارفة! وهنا تحول الاستعراض إلى مناطق الغموض على المتفرجين، فبدأت فقرات من الانفلات في الخطاب ورغبة في الحصول على كعكة أكبر مما حصل عليه، إلى أن وصل إلى مستوى لمس الخطوط الحمراء باستقبال السفير الإسرائيلي… وليس ذلك فقط بل روى ما كان يُحكى في النميمة السياسية على انه حقائق فقال: «… إسرائيل ساندت السيسي في كسر حصار نتنياهو…».
الحكاية لم تنته، لأنها كما كل الحكايات التلفزيونية، بحثت عن الذروة العاطفية مع مشهد تصويب «الحذاء» الطائر من أقدم النواب في البرلمان الحالي، إلى رأس «النائب/ الدمية»..
وبدلاً من فتح النقاش، توقف الأمر عند مشهد الحذاء، بين مؤيد ومعارض، بين صرخات ضد «التطبيع» وأسئلة عن المسافة بين الدولة والناس في العلاقة مع إسرائيل…
وهذه وطأة في حد ذاتها، لأن على هامش الجحيم هناك إعادة لفقرات الألعاب القديمة، حيث اخترعت الأجهزة «ساحة خلفية» تعاقب فيها المختلفون باتهامهم بالتطبيع والعمل وفق أجندة مع «إسرائيل» على هندسة المنطقة… ابتلعت الدولة مفهوم «التطبيع» الذي عبّرت به قطاعات سياسية وشعبية عن رفضها لكامب ديفيد والعلاقات المفتوحة مع «آخر استعمار استيطاني في العالم ابتلاعاً» جعل أجهزة الدولة تتخلص من معارضيها بالإلقاء في محرقة التطبيع… بل إن خطوط الدفاع الأولى لإعادة بناء «الدولة السلطوية» أطلقت روايتها لما حدث في 25 يناير على أنه «مؤامرة صهيو ـ أميركية..»…
.. هذه الألعاب تنزع العقل كما يليق بالجو الملائم للجحيم…
فماذا يفعل إنسان يعيش هنا ويتغذى على روايات الدولة بعد أن يرى فقرة «دمية الأجهزة» بكل ما تمثله من عبث و سخف…؟
ـ 2 ـ
إن لم تصدق حتى الآن: الجحيم لك وحدك..
أنت الفرد الذي أعيته الحيلة في الحصول على فرصة هروب، أو ضربه الهوى فتمنى استكمال حياته، بين أهله وفي مدينته أو على مقربة من «تاريخ شخصي» أو «ذاكرة عائلية»..
أنت الضحية أحياناً، والشريك في صنع الجحيم أحياناً أخرى… لا أحد يراك وهم يصعدون مسارح الصراعات الإقليمية، يحاربون باسم أحد الأطراف، لم يعد مهماً من سينتصر في حرب «السعودية ـ إيران» على ملاعب المنطقة، ولا تحول الصراع بالوكالة إلى حرب أهلية، أو تفجير البقية الباقية من «السلام الاجتماعي» بالألغام «المذهبية»…
المهم من يقدر على المشاركة في «تأسيس» سلام اجتماعي لا يسقط من أعلى أو لمصلحة استمرار «المقيمين» في الأعالي، أو لتجميد الوضع لتأبيد مواقعهم ومصالحهم والشبكات الملحقة بها.
الخطر الآن ليس خارجياً كما تم الترويج لسنوات، «الأعداء» أو «الغرباء» الذين علقتهم كل الأنظمة كأيقونات «الخيانة»… هم «شركاء» استقرار تلك الأنظمة الآن…. ولم يعد مخجلاً لأنظمة اتهمت «الثائرين» عليها بتنفيذ مخططات «الصهيونية» أن بقاءهم في السلطة كان رهن خدمات جليلة من أبطال الصهيونية المعاصرين…
بمعنى أو بآخر، الدول التي أقامت الأوطان على العزلة، لتصبح شعوبها رهائن، تدمر خطابها الآن …
أي أن هذه لحظة إعادة النظر في هواك القديم… إذا أردت البقاء.
فكر لماذا تتعاون إسرائيل مثلاً من أجل استمرار عائلات أو أجهزة أو تركيبات حاكمة، كلها تعلن العداء لها؟
فكر في استفادة إسرائيل من «الاستقرار» على الوضع الحالي/ أو السابق على الثورات ليكون «الماضي» هو مستقبل هذه البقعة من العالم؟
الهوى لم يعد بعيداً عن الحياة…
الخطابات التي تسيطر الآن على التسويات في لبنان وسوريا والعراق وليبيا واليمن وحتى مصر، ما زالت معلقة في «بروباغندا» قديمة تهدف إلى التعمية/ نشر الضباب لكي تضمن الأنظمة البقاء…
لم يعد الهوى القديم مجرد أيقونات هوية/ أو تعاليم «الأديان السياسية» تصنعها أجهزة التعبئة والحشد، أو بروباغندا الميديا الجديدة لتعزل الإنسان هنا في معازل باسم الوطن/ الدين/ المذهب/ العرق/ الطائفة/ الحزب/ فرقة الخلاص…
لم يعد مهماً من سيرفع راية المنتصر، ولا من سيغازل هواك القديم، الذي سُجنت فيه، ولا ماذا ستسفر عنه لقاءات «المستقبل» و «حزب الله»…. المهم الآن من يقدر على تأسيس «حياة مشتركة» على غير «محاصصة الطوائف» أو «حرب الوكلاء..».
هي لحظة خطر إن لم تدخل فيها أنت «الفرد» الباحث عن «مكان» لا يخضع فيه لقانون «البقاء للأقوى»… لكنه ببساطة لم يعد هناك قوي في هذه البقعة.
نعم الحكام/ الأمراء/ الزعماء في مكان آخر… تصنع لهم «خطط الهروب» وتتبختر خطوات مندوبيهم في صالات التفاوض مع العالم (الذي شرخت حناجرهم بالصراخ من مؤامراته ضدهم)، ولم يعد للخجل مكان، فالزيارات الحميمة تعلنها «إسرائيل» نفسها لتفرض «واقعها الجديد»… كما تروي في الكواليس او على ألسنة «المهرجين» حكايات عن «فضائل» قادة اليمين الإسرائيلي في اعتراف العالم بأنظمة أرادت استعادة سلطتها وموقعها بعد «هزة» الثورات، بل إن الروايات تروى الآن علانية عن دور «نتنياهو» في كسر الحصار الدولي عن أنظمة.
… باختصار «إسرائيل» ما زالت شيطاناً تستخدمه الأنظمة في حصار مجتمعاتها، وهي «ملاك البقاء» للأنظمة ذاتها.
ـ 3 ـ
كيف ستجد مكاناً لك في الجحيم؟
أو كيف ستخرج من متاهة هواك القديم، ذلك الذي يضعك في حشود قاتليك…؟
إنقاذنا رهن بتوديع الآباء الذين قادونا جميعاً إلى الجحيم…لا تنتظر منهم حلولاً للمشاكل ولا مشاريع للتنمية…
الآباء يريدون أن يكونوا أقدارنا…. ويحرضون قطعانهم على التهام الفرد، التهامك…
يغطّون فشلهم بشعارات، من فرط فسادها، تُستهلك قبل أن تخرج منهم…لم يعد لديهم شيء من نبيلهم إلى خسيسهم…
لم يعد لدى الآباء شيء، سوى قتل «الشباب»، ليس سنّاً، ولكن كطاقة تتحرر من سطوة «الإجماع» وتثير القلق، والسؤال، وتشير إلى «احتمال آخر» و «إمكانية غير الاندماج» و «عالم جديد..» من دون ثنائيات مغلقة.
لن ينتصر الآباء إلا علينا، عليك، على رغبتك في «الحياة»…. وليس أمامك إلا تخليك عنهم، والتوقف عن دعم «جحيمهم»!
سيتفق الروس والأميركان على خريطة «الهدنة» في سوريا، وستتقاتل السعودية وإيران على مساحات نفوذ، وستسعى تركيا لإنهاء التمدد الكردي بالحفاظ على أصابعها مشتعلة في الحريق السوري…
كل البقع التي نعيش فيها ستظل مهددة بوصول الجحيم ما دامت تحكمها جماعات/ مؤسسات/ عائلات/ طوائف تقوم على مقولة «إننا على دين الآباء» تقاوم بها التجديد كما حدث في كل الجماعات البشرية المنتحرة، حين ألهبت هذه المقولة حماسة الحشود خلف سلطة من مصلحتها تكريس السائد، وتعبئة المستقبل في «الأقنية القديمة» برغم تعفنها.