فضيحة تتلو فضيحة، وجريمة تستأثر بالتركيز الإعلامي والمجتمعي عليها في إثر جريمة، لتكون النتيجة أنّ كلّ فضيحة تقطع متابعة سابقتها، وكل مرتكب يتنفس الصعداء عندما ينتقل الضوء الى مرتكب آخر، ويشعر «المجتمع المشاهد» بشكل وهمي أنه يراقب ويقضي، فلا ادعاء ولا دفاع ولا دفوع ولا مرافعات ولا أحكام ولا عقاب أو براءة، لتكون النتيجة حيال كل ملف تشتيت الملف، و»التواطؤ الموضوعي» اللاواعي مع عملية تعطيل المنظومة القانونية، وفي مركزها المؤسسة القضائية.
ليس هذا جديداً في البلد، لكنه يتخذ طابعاً أكثر خطورة منذ الصيف الماضي وانفجار أزمة النفايات، وكلّ استهتار وغوغائية بشأنها، وصولاً الى فضيحة إخلاء سبيل ارهابيّ «الصبّير»، وحرب داحس والغبراء الإلكترونية حول شبكة الانترنت وغيرها من الفضائح المالية، وفضيحة القمح المسرطن، الى افتضاح أمر شبكة العبودية الجنسية النتنة مؤخراً. لم يعد الأمر يشي فقط بعملية تحلل مفهوم الدولة وحضورها وجسمها ووظائفها، بل تعدى ذلك الى الشعور العارم بالتحلل المجتمعي، الأمر الذي سيزيد الطين بلة تلقفه بأمزجة الرجعية الاجتماعية، وتراشقية القيل والقال سياسياً واعلامياً وحتى شعبياً. يدفع البلد ليس فقط ضريبة استعصاء الانتخابات الرئاسية والنيابية في آن فيه، وليس فقط ضريبة استعصاء مجموع المشاكل المتأتية من صلف «حزب الله» وبخترة سلاحه، وليس فقط أعباء الأمن الاجتماعي المتصلة بالديموغرافية السورية اللاجئة الى لبنان. فوق كل هذا، وقبل كل هذا، وبالتفاعل مع كل هذا، فان ما نكب به البلد من انسداد ثم تلف قنوات التفاوض الاجتماعي، والاجهاز على الهيكليات النقابية فيه، واختزال المجتمع المدني في «المنظمات غير الحكومية» التي عادة ما تتهم بالخبث، فيما المشكلة المستشرية فيها تتصل بالسذاجة، وقلة حاجة الناشطين فيها للتجذر في قاعدة اجتماعية وبناء حركة شعبية ضاغطة وتراكمية. هذا الضمور للمجتمع المدني الحقيقي، المصادر أيضاً بـ»مجتمع المشهد» التلفزيوني، وبتحويل مواقع التواصل الاجتماعي الى قنوات تدوير للسخط، في دورة من التذمر فاليأس فالتذمر، كل هذا به طابع مدمّر. يتواشج طبعاً مع عملية تقويض فاعلية المؤسسة القضائية، وفصل الثقافة السياسية عن الثقافة الحقوقية والقانونية لتهميشهما معاً.
انسداد قنوات التفاوض الاجتماعي وتقويض المؤسسة القضائية يجعلان المسلسل الفضائحي المتواصل هستيرياً بامتياز. بالتالي، سواء بحث الموضوع من فوق (الانتخابات الرئاسية والنيابية) أو من تحت (التحلل المجتمعي بكافة أوجهه)، نحن أمام تدمير منهجي للمُعاش اللبناني، تدمير يُفاقم في الوقت نفسه مع نوبات «جلد الذات» المتفشية بين كثير من اللبنانيين (كما لو كنا شعباً عنصرياً بالفطرة وفاسداً بالفطرة، وتصوّر مثل ذلك كارثي وعنصري وانتحاري بحد ذاته)، أو مع نوبات التعبير العنصري، الانفعالي، الهستيري عن «لبنانيتنا» بأشكال لا تمت بصلة الى أي من الصفحات المشرقة الكثيرة في تاريخ قرن كامل من التجربة اللبنانية، بل لا تستعيد الصفحات البائسة السابقة الا بشكل هزلي وصبياني.
رغم الاعتناءات الظرفية والعابرة للخروج بمظهر اجتماعي، ومهموم بقضايا المعاش اللبناني، لا يزال الخطاب السياسي يتعامل مع كل هذا كقضايا ثانوية، وينظر الى المسلسل الفضائحي المتواصل، حيث كل فضيحة تبرئة لسابقاتها، على انه في نهاية التحليل، نوع من «سيرك روماني» للتسلية والترفيه عن النفس، واخراج المكنون من انفعالات ومؤثرات، الى ان يحين «الجَد السياسي»، أو بالأحرى «الجدّ الأمني». لكن هذا الجد، السياسي أو الأمني، هو ما ننتجه، كل من موقع، كل يوم، من عملية تحلّل مجتمعي، ليس ما يوقفها، طالما استمرت المكابرة على جسامة اضمحلال المعايير (النورم) في كل كبيرة وصغيرة، ومصادرة الكيد والغمّ والنكد لكل ما يفترض أن توجده المعايير الأخلاقية والقانونية من شروط مجتمع قابل للعيش بشكل سوي.
اضمحلال المعايير ما عاد يقتصر على الخلافات السياسية «الكبرى» بل يصيب الجسم الاجتماعي ككل. المعادلة: كلما ضاعت «الدولة» أكثر، لزم أكثر العبور الى المجتمع أولاً.