اي لبنان سيبقى، امام مسلسل الرعب الذي يطوّقه، من كل جانب. من جهة الازمة ومنزلقاتها التي أسقطت المواطن الى ما تحت الحضيض، ومن جهة ثانية، السلطة بكل عوراتها القبيحة وخذلانها للناس، ومن جهة ثالثة «كورونا» واجتياحها كل البلد، ومن جهة رابعة المسرطنات وفضائح اللحوم والمواد الغذائية الفاسدة، وغيرها وغيرها وغيرها من فضائح لا تُعدّ ولا تُحصى في بلد منكوب بسلطة، هي ام الفضائح بعينها، وموبوء بعصابات عفنة من التجار والمزورين، تمارس القتل الجماعي للبنانيين.
لو اراد المرء أن يعطي حكومة حسان دياب علامة من واحد على عشرة، فبالتأكيد انّه سيختار رقماً تحت الصفر. حتى علامة الاستلحاق التي تباهت بها الحكومة لكي تحفظ ماء وجهها أمام اللبنانيين، تبدّدت مع ارتفاع العدّاد اليومي للمصابين بفيروس «كورونا» وإقرار وزير الصحة، الذي بدّد بدوره كل نصائح الحَجر الصحي بصورة رفعه على الأكتاف، بأننا أمام منعطف خطير، يحذّر الخبراء من خطورة أن يتحوّل بعده لبنان إلى السيناريو الإيطالي.
التعامل مع جائحة «كورونا»، التي باتت عملياً على عتبة كل بيت لبناني، لا بل هي تسرّبت إلى قلب النظام اللبناني، حين دقّت أبواب مجلس النواب، هو الصورة الأكثر تعبيراً عن العمل الحكومي، المتسمّ بالإنكار، والذي تبدّى بشكل خاص حين تحوّلت «حالة التعبئة»، منذ قرار اعادة فتح البلد، مجرّد إجراء بروتوكولي يتجدّد عند انعقاد جلسات مجلس الدفاع الأعلى، الملحوقة بجلسات لمجلس الوزراء.
يوم أعلن حسان دياب الفتح التدريجي للبلاد، كانت الجائحة الوبائية قد باتت في مرحلة الاحتواء بالفعل، لكنّ كافة أجهزة الدولة لم تميّز الفارق بين الاحتواء والقضاء التام، فصار التراخي في مراقبة الإجراءات الوقائية انعكاساً لتراخي الدولة في التعامل مع كل شؤون العباد، حتى ندر تسطير أيّ محضر للمخالفات الهائلة لبديهيات «التعبئة العامة»، والتي لم تواجهها الأجهزة المعنية إلّا بإعلانات باهتة عن التشدّد في الإجراءات «ابتداءً من يوم الاثنين»، على طريقة العاجزين عن القيام بحمية غذائية، ممن يحاولون اقناع انفسهم بأنّ «يوم الاثنين» هو موعد اتباع النظام الغذائي السليم.
ليس التعامل الحكومي مع أزمة «كورونا» سوى الانعكاس الأكثر وضوحاً لمقاربة كل الملفات المتصلة بمعيشة المواطن اللبناني، على نحو لم يعد في الإمكان معه تحميل المسؤوليات للخارج، على طريقة دونالد ترامب، الذي لا يزال يلقي بتبعات الأزمة الوبائية على الصين.
أزمة «كورونا» اليوم منبعها داخلي، أقلّه منذ اللحظة التي أعلنت فيها وزارة الصحة العامة «صفر إصابات»، قبل أن يبدأ التراخي مجدّداً في التعامل مع الخطر الذي اعتقد كثيرون أنّ لبنان قد احتواه، حتى بات الانتشار مجتمعياً، وعلى الأرجح في كل مكان.
هذه هي تماماً حال الوضع الاقتصادي، الذي لم يعد من المنطقي تحميل تبعاته على الخارج فحسب، طالما أنّ القائمين على شأنه مختلفون في ما بينهم على الأرقام قبل المقاربة، وما زالوا يتعاملون مع كل ملفات الدولة المهترئة كما لو أنّ شيئاً لم يحدث منذ 17 تشرين الأول 2019، وما زالوا مصرّين على سردية «الغريب»، سواء كان أميركياً يحجب الدولارات عن لبنان، أو خليجياً يريد خنق البلاد اقتصادياً، أو ايرانياً يريد فرض هيمنته من طهران إلى بيروت، أو إسرائيلياً يريد أن يحقق في الاقتصاد ما عجز عن تحقيقه بالمواجهة العسكرية…الخ.
هذه هي تماماً حالنا مع اللحوم الفاسدة التي نشرت الأمراض السرطانية، والتي لم يعد ممكناً، بعدما فاحت رائحتها، إقناع المواطن العادي بأنّ التدخين أو اليورانيوم المنضب هو سبب سرطنة حياته وذويه، طالما باتت الفضيحة بحدّ ذاتها هي التعبير الواقعي عن كل ما حدث في البلاد منذ ثلاثين عاماً حتى اليوم، من السياسات الاقتصادية الفاشلة إلى احتلال لبنان المراتب الأولى في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم… والأهم من كل ما سبق، أنّ اللبناني نفسه بات على قناعة بأنّ من يرتكب هذه الجريمة الانسانية بحقه سيكون مصيره كمصير مرتكبي جرائم المال.
«ساعدوا أنفسكم قبل أن نساعدكم»، قالها جان ايف لو دريان قبل أيام. لا يمكن ايجاد تعبير عن حال لبنان اليوم أفضل مما القاه رئيس الديبلوماسية الفرنسية على مسامع مضيفيه في زيارته الأخيرة إلى لبنان، والتي أسقطت آخر الآمال التي عُقدت على دعم خارجي، لم يتجاوز صدقة ببضعة ملايين يورو، حتى لا تقفل المدارس الفرنكوفونية أبوابها، مع الإشارة إلى أنّ حتى هذه «المكرمة» لم تكن لتحصل لولا الإعلام الفرنسي، الذي حذّر حكومته، طوال الأيام السابقة لزيارة لو دريان من مخاطر ترك الإرث الثقافي الفرنسي في بلاد الأرز فريسة للأزمة الاقتصادية.
بالتزامن، كان الوزير البريطاني المكلّف شؤون الشرق الأوسط جايمس كليفرلي يقرّ، على هامش زيارته اللبنانية «الافتراضية»، بأنّ الأزمة التي تواجه لبنان «غير مسبوقة بحجمها»، ليخلص إلى أنّ «حجم الأزمة كبير جداً وليس فيه سوى حل واحد: لبنان بحاجة إلى تغيير حقيقي… وفي ظلّ غياب الإصلاحات، إنّ الأزمة سوف تسوء لا محالة».
تبدّد الآمال على الدعم الخارجي – وهو ما يمكن أن ينسحب على فكرة «التوجّه شرقاً» التي يحاول البعض مقاربتها على طريقة «الشطارة اللبنانية» الشهيرة – هو ما يجعل الكل يتعامل مع هذا البلد باعتبار أنّ الانهيار قادم لا محالة، ما يجعل كل النقاش الدائر في أكثر من رواق ديبلوماسي، يتمحور حول كيفية التعامل مع هذا الانهيار وليس حول كيفية منعه.
ما يعزز هذ التوجّه، أنّ ثمة اجماعاً بين خبراء المال العالميين على أنّ لبنان قد سلك عملياً طريق الانهيار، منطلقين من التضخّم المفرط، الذي يمكن تعريفه في ألف باء الاقتصاد بأنّه الحالة التي يزداد فيها سعر السلع والخدمات بأكثر من 50 في المئة في غضون شهر واحد، ثم يعقبها تسارع حاد ومتتابع في الأسعار بشكل يومي أو حتى كل بضع ساعات، وهو ما لا تتعامل معه الحكومة الحالية إلاّ بحالة انكار، أكثر أشكالها العبثية تلك «السلّة الغذائية» التي باتت أسعار بعض سلعها أعلى بكثير مما كانت عليه، قبل أن يُمنَّن اللبنانيون بهذا «الإنجاز» الكبير.
كثيرة كانت القواسم المشتركة بين ما قاله الوزيران البريطاني والفرنسي، لكنّ الأهم ما فيها أنّ المزاج العام الخارجي يختزل بأنّ لبنان يقف عند «حافة الهاوية».
في مطلع العام 1975، تعطّلت سيّارة «زيّون» في مسرحية «ميس الريم» للأخوين رحباني. كانت تلك رسالة الاستشراف لمصير الوطن – الحلم المتبرّر. بعد 45 عاماً، ما زالت السيارة معطّلة، ولكنها لم تعد بين قريتي «ميس الريم» و«كحلون». هذه المرّة صارت عند «حافة الهاوية» التي تحدّث عنها لودريان وكليفرلي… والخيال قد يعجز عن استشراف مصيرها ما ان تُسحب تلك «البحصة» الصغيرة التي ما زالت تسندها.