بعد توالي الأخبار عن فضائح السفراء في أكثر من مكان والبقية تأتي، فضائح جنسية وأخرى مالية أو الاثنان معاً، تذكّرت واستعرض تاريخ الدبلوماسية اللبنانية الحافل والمشرّف إلى حين الانهيار الذي وصلنا إليه..
مضى زمن السفراء اللامعين، ألا لمعينين إلى بعض سفراء اليوم، مضى زمان فؤاد الترك والأمير فاروق أبي اللمع وسعيد الأسعد وجوني عبدو وزهير حمدان ونسيب لحود أو عشرات لا يتسع المجال لذكرهم.
كانوا قامات فارعة، ومثّلوا البلد الصغير في عواصم القرار فكانوا في الصف الأول وفي المقدمة حضوراً، وتأثيراً وسمعةً، لماذا وصلنا إلى هذا الدرك في الاختيار والتمثيل؟
لأن ميليشيات المال والسلاح التي تحكّمت بهذا الوطن منذ عقود لم تكتفِ بتوزيع أزلامها، على المراكز الأولى في الوزارة والإدارة، ومرافق الدولة، واختارت أردئهم وأسوئهم. ألغيت وعطّلت مؤسسات الدولة الحديثة التي أرساها الراحل العظيم فؤاد شهاب، واختصرت الدولة في شخصها، وزبانيتها. أين المصرف المركزي الذي أراد به فؤاد شهاب أن يكون ضمانة أموال الدولة، وضمانة أموال الناس؟ أين مجلس الخدمة المدنية؟ وأين التفتيش المركزي؟ أين دولة المؤسسات؟ رحم الله الوزير (السفير محمود حمود) أخبرني، قبل وفاته، أن تسلّط أمراء الحرب، أمراء الطوائف على وزارة الخارجية سيودي بها إلى الحضيض.
وليعذرني من لم أذكره من السفراء النشطاء الشرفاء فلا المجال يسمح ولا الذاكرة تسعف. وخلال تجربتي في العاصمة الفرنسية لا يمكنني إلّا أن أذكر أيضاً أن السفير ناجي أبو عاصي، والسفيرة سليفي فضل الله كانا خير ممثلين لبلدهما، سمعة، وثقافة، ونشاطاً. ولا يزال في هذا السلك سفراء مميّزين، أطال الله بقائهم وحماهم من سلطة الطغمة الحاكمة.
ولا بد لي في هذه العجالة. أن أذكر الواقعة التالية، وهي أني عندما تسلّمت مسؤولية الملحقية العسكرية في باريس في عام 1991، وكان هناك السفير جوني عبدو المعروف بشخصيته الكاريزماتيكية، وذكائه الحادّ، وحضره المميّز. وقدّم لي الكثير من الدعم لإنجاحي في مهمتي، فتعاونّا معاً لما فيه خير للبنان، وللبنانيين المقيمين في فرنسا. وعددهم كان يفوق المائة ألف. أذكر أني وجدت حساب الملحقية العسكرية المستقل عن حساب السفارة، كان قد وضع في أحد المصارف بحساب جاري، يعني صفر فائدة، وكان الرصيد يفوق التسعة ملايين فرنك وكانت الفائدة على الفرنك في حينه تبلغ 9% يعني 900 ألف فرنك سنوياً بينما مصروف الملحقية السنوي أقل من ذلك. فعمدت فوراً إلى طلب تجميد 8 ملايين فرنك.
مما فاجئ إدارة المصرف، فصدمت. وزارني المدير العام بناء على موعد وحاول رشوتي بمبلغ هائل أي بتقاسم الفائدة بيني وبين المصرف على أن أترك الحساب جاري كما هو، وكانت ردة الفعل لديّ قاسية مع التهديد بنقل الحساب إلى مصرف آخر.
كان رصيد حساب السفارة في ذلك الوقت يفوق الـ 30 مليون فرنك، وكان جارياً دون فائدة، أخبرت السفير بما حصل فاستدعى المحاسب بحضوري ووبّخه ساخطاً فأنكر مسؤوليته وقال هكذا استلمت. فقوّم السفير الوضع وربحت السفارة حوالي 3 مليون فرنك سنوياً. وكانت تساوي نصف مليون دولار.
إني لا أتهم السفراء الذين كانوا قبل جوني عبدو بالتواطئ، ولا أنهم أبداً من كان قبلي، فربما سَهَتْ عن بالهم تلك النقطة.
إني لا أقصد بما ذكرت الادّعاء ولا التباهي بل هي حقيقة تُذكر. وكم من الملايين تهدرها السفارات في الخارج سهواً أو تواطئاً.
وفي النهاية جوني عبدو كان ولم يزل نزيهاً، لم يذكر أحد عنه حتى خصومه شبهة مالية وكذلك من ذكرت من السفراء. وقدّم عشرات المساعدات للبنانيين احتاجوا لعمليات ولعلاج مكلف.
وقد قال الشريف الرضي عن الإمام علي عليه السلام «اطلبوا الخير من بطون شبعت ولو جاعت، لان الخير فيها باقٍ ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لان الشح باقٍ فيها».
ومن ذكرت لم يكونوا من عائلات ميسورة، ولكنها كانت مستورة، شبعت، وبقي الخير فيها وفي أبنائها وهذه شهادة للتاريخ.