التسوية السياسية قائمة بمفاعيلها الحكومية ما دامت صورة تحوّلات المنطقة لم تتبلور بعد
إنتزاع الإعتراف الرسمي بالتطبيع هدف إيران لربط لبنان بمجالها الحيوي في «سوريا المفيدة»
بدا واضحاً أن الحكومة الحريرية التي نتجت عن التسوية السياسية وتشكلت على قاعدة «ربط نزاع» حول الملفات الخلافية، تواجه اليوم مطبات أساسية وتحديات عدة تنطلق من اقدام المحور السوري- الإيراني في لبنان إلى مقاربة مسائل خلافية رغم الاتفاق الأساسي على تحييدها، مما يطرح سؤالاً عما اذا كانت هذه المقاربة تنطلق من «اقتناع ما» بأن ظروف التسوية التي آلت إلى تأليف الحكومة قد تبدلت، وبالتالي انتفت معها مبررات وجودها، بما يجعل هذا الفريق يتخذ خطوات ذات سقوف سياسية عالية غير أبه بالنتائج وإن أدت إلى تفجير الحكومة.
في القراءات المتعددة الاتجاهات أن التسوية الداخلية الراهنة لا تزال سارية المفاعيل، والظروف التي أدت إلى انتاجها لم يطرأ عليها تغييرات جوهرية بما يفضي إلى نتائج جديدة قادرة على رسم مسار مختلف أو نهائي على مستوى الإقليم يترك تداعياته على الساحة اللبنانية. فالمنطقة لا تزال في مخاض التحولات غير المنتهية لا بل غير الواضحة المعالم كليا. وإذا كان هناك من تحولات يمكن الحديث عنها، فهي ذاهبة في الإطار الذي لا يخدم وجهة المشروع الإيراني في المنطقة، الذي يتعرض لتحديات فعلية، بعد مجيء الإدارة الأميركية الجديدة وبعد قمم الرياض التي أقرت سياسة واضحة حيال إيران لمواجهة تمدد نفوذها إلى دول الجوار والدور السلبي والتخريبي لأذرعها العسكرية، وفي مقدمها «حزب الله» الذي اعتبره الرئيس الأميركي أثناء استقباله رئيس الحكومة في البيت الأبيض أنه خطر على لبنان والمنطقة.
تلك التحولات الآتية على وقع الاتفاق الروسي- الأميركي الذي تبلورت ملامحه رغم انه غير منجز بشكل كلي، لا تصب في نهاية المطاف لمصلحة مشروع حزب الله الإقليمي، وفق متابعين لمجريات الأمور في المنطقة، وإن سعى الحزب إلى تصوير مآلات الوضع الميداني في سوريا بأنه انتصار حتمي ودائم ونهائي له ولمحوره. وهو تالياً يدرك أن مرحلة من الضغوطات في انتظاره أكبر في المرحلة المقبلة مع بدء ترتيبات الحل في سوريا ومع بدء تطبيق النسخة الجديدة من العقوبات الأميركية واشتداد الطوق على إيران في ساحات المواجهة الدائرة، ما يفترض أن يدفعه إلى عدم التفريط بـ»الستاتيكو» القائم حكومياً وبالتسوية عموماً.
غير ان ذلك لا يعني أن «حزب الله» لن يستمر في المضي باقتناص أي فرصة يمكن توافرها لتعزيز موقعه وموقع راعيه الإيراني وأوراقه في المعادلة الإقليمية ولاسيما السورية. ففي هذا السياق، تندرج معركة جرود عرسال التي صورها على أنها «انتصار كبير» في مقابل عدو لا يستهان به وبإمكاناته قبل أن تنكشف حقيقة قوة جبهة النصرة في الجرود والتسوية التي سبقت ولحقت المعركة. وتأتي أهمية المعركة بالنسبة إليه والهالة التي احاطها بها في ظل الحديث عن أن الاتفاق الروسي- الأميركي التي سربت غالبية بنوده ينتظرلاعلان انجازه استكمال توافق موسكو وواشنطن على خارطة طريق لخروج ايران وميليشياتها من سوريا.
وليست ضغوط «الثنائية الشيعية» لإعادة تطبيع العلاقات اللبنانية – السورية على ساعة إيران سوى خطوة أخرى في سياق تعزيز موقعها على الخارطة السورية، ما يعني ان زيارة وزيري حزب الله و»حركة أمل» ومعهم وزير «تيار المردة» الذي يتباهى زعيمه بتحالفه مع سوريا الأسد تحديداً وليس أي سوريا، يتوقع ان لا تكون زوبعة اعلامية أو محطة عابرة بل دينامية انطلقت كي تُستكمل استعداداً للمرحلة المقبلة، بحيث يكون الحلف الإيراني قد أعاد تطبيع علاقات لبنان مع نظام الأسد بما يعيد ربط البلدين على أقله في المجال الحيوي الذي حققته طهران وميليشياتها، في منطقة ما بات يعرف بـ»سوريا المفيدة» إنطلاقاً من منظور أن هذا الارتباط من شأنه أن يحمي النفوذ الإيراني أو على الأقل يحفظ مقعداً على طاولة المقايضات.
فالضغط من أجل انتزاع اعتراف من الحكومة الحريرية بتطبيع العلاقات اللبنانية- السورية مرشح بأن يستمر، وستستمر معه محاولات رئيس الحكومة لاستيعاب التصدعات التي قد يحدثها عبر التمسك بعدم اضفاء الطابع الرسمي على الزيارات. وإذا كانت عدم زيارة وزير «التيار الوطني الحر» رائد خوري قد أسهمت في التخفيف من وقع التداعيات السياسية على الحكومة، فإن التحدي أمامه يصبح مضاعفاً إذا انضم وزراء التيار إلى هذه الزيارات العلنية، ذلك ان زيارات غير علنية لوزير التيار بيار رفول إلى دمشق قد حصلت مرات عدة منذ تولي العماد عون سدة الرئاسة الأولى، لكن إبقاءها بعيدة عن الأضواء كان نتيجة إدراك عون لما يمكن أن تحدثه هذه المسألة الخلافية من توترات سياسية في مرحلة انطلاقة عهده.
على أن تبيان المسار الذي ستسلكه البلاد ينتظر إنجاز الاستحقاق الذي يشكل اليوم أولوية للحكم والحكومة والمتعلق بمعركة تحرير جرود رأس بعلبك والقاع التي سيخوضها الجيش اللبناني، ذلك أن هذه المعركة من شأنها أن تحدد الملامح السياسية للمرحلة المقبلة، حيث يبدو أن افق المرحلة مفتوح على سيناريو من إثنين: الأول يتمثل بعودة الانسجام السياسي ولو بحده الأدنى إنطلاقاً من ضرورة الحفاظ على منظومة المصالح القائمة لدى القوى النافذة، والتي ستسعى إلى تثميرها داخلياً ربطاً باقتراب موعد الانتخابات النيابية.
أما السيناريو الثاني، فيدور حول احتمال أن يترافق انتهاء معركة الجرود التي ستجري برعاية أميركية مع العاصفة التي ستستهدف «حزب الله» عبر العقوبات الأميركية، والتي تأتي في ظل ارتفاع التصعيد السياسي والاعلامي حول انسحاب مفاعيل القرار الدولي 1701 لتشمل الحدود الشمالية والشرقية مع سوريا. وهو سيناريو يشكل بالنسبة الى الحزب نوعاً من اختبار مدى قدرة الحكومة على تجاوز هذه العاصفة، التي ينظر اليها على أنها محاولة من محاولات تطويقه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وبأنها مشروع حرب ضده، لن تثنيه عندها عن قلب الطاولة بكل الوسائل!.