تهاوي جغرافية «داعش» ومؤسّساته يسرِّع الحاجة لتكريس وقائع ميدانية عند الحدود اللبنانية – السورية
التحدّي الذي يواجه القيادات السياسية المعنية أبعد من كيلومترات «مكتومة القيد» ىإلى مستقبل عرسال كبلدة لبنانية في محيط مختلف!
يوم أعلن زعيم «تنظيم داعش» أبو بكر البغدادي دولة الخلافة من الموصل قبل ثلاث سنوات إثر سيطرته على المحافظات السنية الرئيسية في العراق في زمن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، القائد الأعلى للقوات المسلحة ورجل إيران الأقوى ضمن البيت الشيعي العراقي، كان واضحاً للخبراء الأمنيين أن سقوط دولة البغدادي مسألة وقت ليس أكثر، ما دام التنظيم يعمل في العلن ككيان دولة بمؤسساتها العسكرية والادارية، على خلاف تنظيم «القاعدة» الذي كانت خلاياه وشبكاته تعمل تحت الأرض وبسرية تامة.
والتنظيم الذي أسبغ براية الدين وجذب شذاذ الآفاق من بقاع الأرض وأصحاب السوابق والمجرمين الذين فُتحت لهم أبواب السجون في العراق وسوريا، وحدود الدول بدأ يلفظ أنفاس دولته بعدما تحولت المناطق التي سيطرعليها خراباً ودماراً وشرد الملايين من سكانها، وبعدما سقطت الموصل برمزيتها العراقية كعاصمة له، وستسقط الرقة في غضون وقت قصير برمزيتها السورية وكذلك دير الزور في خضم المعركة الدائرة في البادية التي كانت مرتعه. هذا الانهيار والتهاوي لأسطورة «داعش» يفرض راهناً استحقاق معركة الجرود المتداخلة اللبنانية- السورية التي يتواجد في جانب منها تنظيم «داعش» وفي جانب آخر «جبهة النصرة» والمجموعات التي تدور في فلكها، والتي يتم تعريفها بمعركة جرود عرسال.
ويعتبر مقربون من «حزب الله» الذي تنتشر ميليشياته وجيش النظام السوري على مساحات واسعة في الجرود السورية من محور القصير- حمص في الشمال الشرقي الى محور القلمون –الزبداني في الجنوب الشرقي أن هذه المعركة التي يتم الاعلان عنها اليوم قد تأخرت لأسباب لبنانية، نظراً للاعتبارت المذهبية والسياسية التي تحكم بلدة عرسال بشكل رئيسي. لكن انتهاء معركة الموصل وما يرافقها من معارك على الأرض السورية تحت عنوان مكافحة الإرهاب، معطوفة على التسابق الميداني الدائر بين محوري واشنطن وموسكو وحلفاء كل منهما فتح الباب أمام هذا الاستحقاق المؤجل. وتأتي إندفاعة الحزب في هذا التوقيت للاستفادة من وهج إعلان النصر في معركة الموصل، والتقدم الذي يحققه محور طهران في معركة البادية لإنجاز هذه المعركة التي لا تنطلق، في رأي متابعين، من الحاجة فقط للقضاء على البؤرة المتبقية في الجرود المتداخلة لبنانياً وسورياً، وإنما من تكريس وقائع ميدانية جديدة سيكون لها ترجماتها السياسية في المستقبل القريب. فالمسالة، وفق هؤلاء لا تتعلق بمصير بضع مئات من الكيلومترات «المكتومة القيد» في جرود عرسال الساقطة عسكرياً وحتى سياسياً، بل في مستقبل بلدة عرسال اللبنانية، والتي هي في واقع الحال الجيب السني الوحيد والأخير في البقاع الشمالي، وهو جيب ذو وجه سياسي مختلف عن محيطه، وهذا ما يضع المعركة برمتها على المحك لجهة كيفية التعاطي مع هذا التحدي من قبل القيادات اللبنانية، وفي مقدمها القيادات السنية التي تتحمل ليس فقط المسؤولية السياسية والوطنية والتاريخية، إنما أيضا المسؤولية التاريخية.
وما يؤرق المراقبين في شأن معركة جرود عرسال هو أن القيمين على المعركة قد يكونون يدركون كيف ستبدأ غير أنه من الصعب التكهن كيف يمكن أن تنتهي. فعلى الرغم من المعطيات التي تُسرب عن أن العملية هي عملية جراحية محسوبة، ما دامت محدودة في الجغرافيا وفي المعطيات والظروف وهامش المناورة ضيق فيها، فإن ثمة من يرى أن هذه الحسابات قد لا تكون دقيقة لجهة الجزم مسبقاً بردة فعل المسلحين المحاصرين والمطوقين من مختلف الجهات، ذلك أن الهجوم المرتقب من والنظام السوري وميليشا «حزب الله» من الجهة السورية باتجاه الجرود، سيدفع بالمسلحين إلى اللجوء في اتجاه عرسال، وهو ما يتحضر الجيش اللبناني الى التعامل معه بحزام نهاري من مواقعه على الجبهة اللبنانية، من أجل منعهم من التسلل الى الداخل اللبناني. لكن ثمة مخاوف حقيقية في ظل الكلام عن عدم وجود خط انسحاب للمسلحين في اتجاه البادية واحتمال محاصرتهم من كل الجوانب إلى الذهاب إلى «السيناريو» الأكثر تعقيداً بعملية مدروسة تؤول إلى سيطرة المسلحين على بلدة عرسال، ما يجعل أهلها كما مخيمات النازحين دروعاً بشرية، الأمر الذي يكون قد حقق هدفاً مضمراً للحزب وحلفائه في جعل واقع عرسال البلدة كما هو واقع الرقة والموصل.
وإذا تحقق هدف تحويل عرسال إلى الرقة والموصل، فإن السيناريو الذي ينتظرها يمكن رسمه بسهولة. فنموذج الموصل ماثل للعيان،حيث أن المعركة استغرقت أشهراً عدة وأدت الى تدمير كامل والى نزوح غالبية سكانية. وهو السيناريو نفسه الذي ينتظر الرقة وسيكون مصير عرسال.
مصير لن يقتصر على تغير ديموغرافي للمنطقة وأزمة نزوح للعراسلة، بل سيشكل إحدى مقدمات النزاع المقبل في لبنان، ذلك أن القارئين في تجارب الحروب السابقة يشبهون مظاهر التفلت المتعدد والتفكك الحاصل على مختلف الصعد بأنها «تخمير» للنزاع المقبل، إذ أن معالم انهيار الدولة تتفاقم يوماً بعد يوم، ومن شأن أي عامل مفاجئ ان يسرع من وتيرة هذا الانهيار كتمهيد أكيد لانفجار أكبر غير مسبوق، في ظل الاختلال المتزايد في موازين القوی على الساحة الداخلية والإقليمية.