طبعت فاجعة مقتل الطالبة ماغي محمود، في ثانوية القبة الثانية الرسمية، المشهد التربوي عام 2022. إذ أثارت أسئلة حول مسؤولية وزارة التربية عن فتح الثانوية أمام الطلاب من دون التدقيق في معايير السلامة العامة والأمان بعد الترميم، كما فتحت النقاش حول دهاليز الترميم والقيمة الفعلية للأموال المخصّصة لإنشاء مبانٍ مدرسية وترميم وتوسعة عدد منها وأين وكيف تُصرَف؟
في دولة التنفيعات التي تكره الاحصاءات والأرقام، يبدو الحصول من وزارة التربية والتعليم العالي على لوائح بالمدارس الرسمية التي أُنشئت أو رُمّمت منذ عام 2014، وقيمة العقود ونوعية الأعمال ومدى مطابقتها للمواصفات، أشبه ما يكون بأسرار الدولة الخطيرة.
«عندي قسم من المعلومات»، تجيب مسؤولة وحدة الشؤون الهندسية في الوزارة، مايا سماحة، لدى سؤالها عن أعمال البناء والترميم بين عامَيْ 2014 و2021. إذ لا معطيات دقيقة في حوزتها عن منحة «دراستي-2» (المموّلة من وكالة التنمية الأميركية بين عامي 2010 و2015) التي خُصّص جزء منها لعمليات الترميم، أو برنامج «خطة التعليم الشامل للأطفال في لبنان» (RACE2)، بمن فيهم اللاجئون السوريون (بين عامي 2017 و2021)، وما رُصد منه للبناء والترميم.
غير أن سماحة تنفي ما يُشاع عن أن ما حصلت عليه وزارة التربية طوال هذه الفترة لمشاريع التوسعة والترميم يلامس 270 مليون دولار، مؤكدة أن هذا «رقم مبالغ فيه»، وأنه «ليس كلّ ما يُرصد يصل إلى الوزارة أو يُصرف».
إدارة موازية!
بحسب الباحث في مركز الدراسات اللبنانية، نعمه نعمه، يفترض أن تراقب وزارة التربية كلّ عمليات صرف الأموال وآلياتها وتنشرها على موقعها الإلكتروني عملاً بمبدأ الشفافية، وبما تنصّ عليه الاتفاقيات مع الجهات المانحة. «لكن يبدو أن من يبرم العقود ويطّلع على تفاصيلها ويدير أموال المشاريع التربوية ليس إدارات الوزارة ووحداتها المعنية بها التي لا تملك المعطيات الكاملة، بل إدارة موازية تضم مستشارين للبنك الدولي محسوبين على الأطراف السياسية». ويوضح نعمه أن «الإدارة الموازية تتكتّم على آليات الصرف والتلزيمات والعقود، وبالتالي فإن موظفي الوزارة سواء في وحدة التعليم الشامل أو في الوحدة الهندسية لا يعرفون عنها شيئاً، وهم ليسوا مسؤولين فعلياً عما يحدث، باعتبار أن السلطة الأساسية للمدير العام للتربية ووزير التربية ومستشاري البنك الدولي، والطبخة تُطبخ على هذا المستوى».
يُذكر أن آلية العمل مع البنك الدولي اتُّفق عليها في عهد المدير العام السابق فادي يرق.
ويشير المسح الشامل للمباني المدرسية في مشروع «دراستي-2» (2011)، في إطار مشروع الإنماء التربوي، إلى أنه من بين 1262 مدرسة رسمية آنذاك، فإن 75% منها تحتاج إلى إصلاحات، ومن بينها 25% تحتاج إلى «إصلاحات كبرى»، فيما هناك 40 مدرسة غير آمنة من الناحية الهيكلية. ومن بين 400 مدرسة تملكها الوزارة، فإن 22% منها تتسم بالاكتظاظ. ولفت نعمه إلى أن برامج الوزارة سعت إلى تأمين التمويل اللازم لتحسين القدرة الاستيعابية من خلال بناء مدارس أو توسعة مبان قائمة وترميم جزء آخر.
في المقابل، تشير سماحة إلى أن هناك اليوم 1238 مدرسة وثانوية رسمية، 50% منها تقع في مبان مستأجرة، مؤكدة أنه ليس من بينها أي مبنى يشكل خطراً على سلامة التلامذة. فيما «ثانوية القبة في طرابلس حالة استثنائية جداً، إذ استأجرتها الوزارة عام 2018 بعد الترميم، ولم تكن هناك إمكانية لدى مهندسي الوزارة لكشف الغش في التنفيذ، والتحقيق لا يزال مستمراً».
تمويل صُرف… لم يُصرف
وليس معروفاً ما إذا كانت الأموال التي خُصّصت في السنوات الأخيرة لإنشاء المباني المدرسية وللترميم والتوسعة والتجهيز صُرفت أم لا. وهي تتضمن، بحسب بحث أجراه نعمه استند فيه إلى دراسات وتقارير الدولية، منحة «دراستي-»2 (2010 – 2015)، بقيمة 75 مليون دولار لتعزيز البنية التحتية المدرسية وإجراء مسح شامل للأبنية المدرسية وتقييم البنية التحتية وأهليتها لاستقبال التلامذة وتغطية كلفة الترميم والتوسعة والتجهيز لعدد كبير من المدارس. وهناك أيضاً منحة البنك الدولي للإنشاء والتعمير (2015) بقيمة 32 مليون دولار، خُصّص منها 5.2 ملايين دولار لترميم المدارس الأكثر حاجة استناداً إلى المسح.
ومن الأموال المرصودة لدعم هذا القطاع أيضاً قرض البنك الدولي EDP2 (2016-2018)، بقيمة 40 مليون دولار، خُصّص منها 15.7 مليون دولار لدعم البنية التحتية المدرسية وترميم 162 حضانة وتجهيز 306 حضانات. وتوضح سماحة أن الوزارة التربية أدارت مشروع ترميم الروضات الذي «كلف 4 ملايين دولار وطاول 197 روضة وتضمّن إنشاء ملاعب خاصة بالأطفال ومرافق صحية ملائمة وغرف مستقلة لتنفيذ الأنشطة المشتركة وتجهيز الصفوف بالطاولات والكراسي وتزويد المدارس بألعاب ووسائل تربوية ذات مواصفات عالمية لناحية الجودة والسهولة ومتانة الاستعمال والتنظيف، ولم يكن ما يماثلها في المكتبات اللبنانية أو في المدارس الخاصة».
تكتّم على آليات الصرف والتلزيمات والعقود والمبالغ المرصودة تكفي لبناء أكثر من 100 مدرسة وتوسعة 200 أخرى
كذلك خصّصت منظمة الـ«يونيسف»، من مصادر تمويل مختلفة (2014-2015)، 56.22 مليون دولار، يفترض أن جزءاً منها ذهب لإعادة تأهيل المدارس. وفيما ليس هناك ما يؤكد ما إذا كان هذا المبلغ قد أُنفق على التأهيل أم لا، تشير سماحة إلى أن الـ«يونيسف»اليوم في صدد ترميم 120 مدرسة رسمية في كلّ لبنان، بموازنة تبلغ 40 مليون دولار، وبناء 4 مدارس جديدة في مزرعة يشوع وضهور الشوير وكفرزبد ومجدليا – زغرتا. وتشير سماحة إلى منظمات دولية غير حكومية شاركت في أعمال ترميم وصيانة وإضافة ملاحق إلى الأبنية، منها مفوّضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (12 مدرسة)، الصليب الأحمر (8 مدارس)، ومنظمة ICU التي أمّنت الطاقة الشمسية لعدد من المدارس بتمويل أوروبي، لافتة إلى أن أموال هذه المشاريع لا تمرّ عبر وزارة التربية.
ويضيف نعمة إلى الجهات التمويلية، وكالة الـ«أونروا» التي خصّصت من مصادر تمويل مختلفة (2014) 43.5 مليون دولار، رُصد جزء منها لتأهيل المدارس والبنية التحتية. إضافة إلى مشروع S2R2، أو دعم مبادرة التعليم الشامل (2016-2021)، الذي بلغت قيمته 204 ملايين دولار (قرض بقيمة 100 مليون دولار ومنحة بقيمة 104 ملايين دولار)، خُصّص 70 مليوناً منها لإنشاء أبنية جديدة وتوسعة وترميم مبان أخرى، و20 مليوناً دولار للتجهيز والأثاث. وبحسب نعمه، يفترض أن هذا التمويل الأخير قد دُفع لبناء 40 مدرسة جديدة وتوسعة 125 مدرسة أخرى، وترميم وتأهيل وتجهيز أكثر من 500 مدرسة مستأجرة و300 مبنى مملوك من الدولة. «والمفترض أيضاً أن الدفعة الأولى من الأعمال أُنجزت، أما الدفعة الثانية من أعمال البناء لـ30 مدرسة والتوسعة لـ165مدرسة فكان منتظراً أن تبدأ منتصف عام 2022، وتُنجز مع نهاية العام. وقد تم تحويل المخصصات للإنشاءات والترميم والتأهيل كاملة، أي 90 مليون دولار لوزارة التربية عبر وزارة المال». في السياق، تقرّ سماحة بأنه «جرى فعلاً تحويل 90 مليون دولار من مشروع S2R2، تتوزّع على أعمال الترميم والإضافة والبناء في 196 مدرسة وثانوية. وما حصل أن الدراسات أُنجزت لكل المدارس والثانويات، فيما بدأ العمل حالياً في 48 مدرسة فقط، علماً أن المبلغ المتبقّي هو 60 مليون دولار».
التمويل لم يتحقّق
إلى ذلك، قدّرت وزارة التربية والبنك الدولي موازنة برنامج RACE2، أي برنامج التعليم الشامل، بـ1.845 مليار دولار، إلا أن التمويل لم يتحقق بالكامل، كما يقول نعمه. في الموازنة الأساسية المقترحة، خصّص البرنامج 200 مليون دولار، فيما يفترض أن هذا المبلغ تناقص بسبب فجوة التمويل. ومن الإنفاق المخصص لدعم تعليم اللاجئين في 358 مدرسة (600 دولار عن التلميذ دوام بعد الظهر و363 دولاراً عن الملتحقين قبل الظهر)، يُخصص للترميم والتجهيز 100 دولار سنوياً عن كل ملتحق في تعليم بعد الظهر. تسلّمت وزارة التربية في السنوات الثلاث الأولى نحو 40 مليون دولار من أصل نحو 75 مليوناً، واحتفظت اليونيسف بالدفعات المتبقية، أي 35 مليون دولار لبناء مدارس جديدة في عام 2022. علماً أن اليونيسف واليونسكو قامتا بترميم 92 مدرسة رسمية تضرّرت جراء تفجير الرابع من آب 2020.
وبينما تلحظ الموازنة العامة 20 مليون دولار لأعمال الإنشاءات والترميم والتجهيز للمباني المدرسية، تنفي سماحة تحويل هذه المبالغ إلى وزارة التربية.
يبدو من ذلك أن المبالغ المخصّصة لبناء وتوسعة وترميم وتجهيز المدارس تقارب 200 مليون دولار من القروض والمنح التي كان يفترض أن تُصرف بين عامي 2014 و2022، أي بعد إنجاز مسح «دراستي» الشامل للمدارس. وبحسب البنك الدولي، فإن كلفة بناء مدرسة واحدة تبلغ مليوني دولار، وكلفة التوسعة توازي 235 ألف دولار، فيما تراوح كلفة الترميم بين 300 و700 ألف دولار، وهذا يعني أنه لو جرى إنفاق المبالغ المرصودة، لكان ذلك كفيلاً ببناء أكثر من 100 مدرسة وتوسعة 200 أخرى وترميم كل مدارس لبنان وتجهيزها بالمواصفات المطلوبة، فيما لا تزال أسقف مدارس تنهار فوق رؤوس طلاب.