فرض «كارتيل المدارس» الخاصة نفسه معياراً للتعليم الجيد خارج أيّ رقابة مالية أو قانونية، إن من وزارة التربية أو من لجان الأهل الشكلية. وأيّ تعميم من الوزارة لا يرضيها أو يمسّ أرباحها لن يمر. ليس بالضرورة أن يكون هناك توافق بين مدارس «الكارتيل» على ورقة مشتركة أو برنامج واضح، لكنّ ثمّة اتفاقاً ضمنياً في ما بينها على أن لا تمس أيّ منها مكتسبات الأخرى بل تحميها وتدعمها عندما تدعو الحاجة
بات مصطلح «كارتيل المدارس» متداولاً على غرار «كارتيل المصارف». فممارسات المدارس ونفوذها وأرباحها تحاكي حال المصارف، بل وتتفوّق عليها كونها مؤسسات «غير ربحية»، خارجة عن أي رقابة مالية، ومعفاة من الضرائب والرسوم الجمركية. وهي مؤسسات تتبع في غالبيتها لطوائف، ولا رقيب عليها سوى لجان الأهل، وهذه في غالبيتها شكلية أو تعيّنها الإدارات المدرسية.
وتتفلّت المدارس وأصحاب الرخص (مالكو المدرسة) من أي ضريبة على الأرباح رغم العمليات التجارية والأنشطة الملحقة التي تقوم بها خارج إطار التعليم (كالأنشطة الصيفية والنوادي الرياضية والقرطاسية والكتب والنقل وغيرها)، والتي يدفع الأهالي بدلاتها من خارج الأقساط، وسط غياب شبه كامل لمراقبة النفقات من جانب الأهل ووزارة التربية، فيما تزخر موازناتها ببنود وهمية مثل «التجديد والتطوير» و«الاستهلاكات» وغيرها، والتي تذهب بمعظمها إلى أصحاب الرخص.
هذا العمل المشبوه خارج أطر الرقابة المالية والتربوية أرسته المدارس الخاصة عبر ضغوط على الأهالي والجهات الرسمية بسبب ضعف الدولة وعجزها عن تأمين تعليم رسمي متكافئ ولا سيما بعد الحرب الأهلية. ففرضت نفسها معياراً للتعليم الجيّد وسبل التعامل مع وزارة التربية، وعطّلت آليات المراجعة والمحاسبة القانونية من خلال تعطيل المجالس التربوية التحكيمية، واستأثرت بالقرارات في وزارة التربية على مرّ عقود لتحول دون فقدانها السيطرة على القرار السياسي التربوي.
من هو «كارتيل المدارس»؟ في لبنان 1061 مدرسة خاصة غير مجانية (بحسب إحصاء المركز التربوي للبحوث والإنماء عام 2015)، منها 127 مدرسة تقريباً يتجاوز عدد تلامذة كل منها الألف، وتضم 214 ألف تلميذ/ة من إجمالي 559 ألفاً. إذاً 127 مدرسة تمثل أقل من 12% من مجموع المدارس الخاصة لديها 39% من مجموع التلاميذ. المتغير الوحيد بين 2015 واليوم هو عدد التلامذة الذي قد ينقص أو يزيد بنسبة لا تتجاوز ثلاثة في المئة. ولهذه المدارس (وشبكات المدارس) نفوذ أساسي في اتحاد المؤسسات التربوية الناطقة باسم المدارس الكبرى. وهي التي تشكّل فعلياً «كارتيل المدارس». وبالبحث في دليل المدارس التابع للمركز التربوي عن أصحاب هذه المدارس والجهات الوصية عليها، يتبين أن ملكيتها، بشكل أساسي، تعود إلى جمعيات دينية محلية وأجنبية، ومؤسسات أجنبية ومحلية علمانية، وشركات خاصة ومدنية، وأفراد.
المدارس الكاثوليكية
تتوزّع المدارس الكاثوليكية (وعددها 53 مدرسة من أصل 127) في كل لبنان وتحمل تسميات مختلفة تعبّر عن الرهبنة أو المرجعية الدينية التي تنتمي إليها. وهي تضم 94 ألف تلميذ/ة من أصل 213 ألفاً.
الرهبنات المحلية تتبع بشكل كامل للبطريركية المارونية، فيما لدى الرهبنات الأجنبية نوع من الاستقلالية. لكنها كلها تنتمي إلى الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية، أي أنها تتبع إدارياً ومالياً للأمين العام الأب بطرس عازار المكلّف من البطريرك الإشراف عليها. يعني ذلك أن المدارس الكاثوليكية شبكة واحدة بإدارة مركزية، ولو تميز بعضها وتفرّد بقرارات مخالفة للأمانة العامة كما حدث مع المشرف على مدارس الفرير الذي رفض رفع الأقساط بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب، قبل أن يُستدعى إلى البطريركية ويُعاد الى «بيت الطاعة».
تُقدر إيرادات المدارس الكاثوليكية الـ 53، من الأقساط فقط، بنحو 500 مليار ليرة سنوياً، وتُقدّر الحصة السنوية لأصحاب الرخص (أي البطريركية) بـ 50 ملياراً، من دون احتساب الأرباح من البنود الأخرى في الموازنة المدرسية أو من الوفر في الموازنات.
ولا ينحصر نفوذ الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية في المدارس الكبرى، بل يمتد الى المدارس الصغرى التي تتبع لها. علماً أن نسبة المدارس الكاثوليكية تصل الى نحو 35% من مدارس لبنان الخاصة، وتضم أكثر من 40% من التلامذة، وكلها تتبع الإدارة المركزية. ورقم أعمالها مشابه للمدارس الكاثوليكية الكبرى.
المدارس العلمانية والإفرادية والشركات
تبرز بين هذه المجموعة شبكة مدارس الليسيه التابعة للبعثة العلمانية الفرنسية وتتضمن 5 مدارس كبيرة تضم أكثر من 10 آلاف تلميذ/ة، تليها شبكة مدارس السابيس – الشويفات. هذه المدارس تتميز بأقساط مرتفعة، إضافة إلى مدارس أخرى يملكها أفراد أو شركات مختلفة لا تنتمي إلى شبكات مدارس أو لديها مرجعية مالية أو إدارية مركزية. ويمكن القول إنّ شبكة مدارس الليسيه هي الأبرز، كما يتوسع نفوذ البعثة العلمانية إلى مدارس توأم تعتمد منهج البكالوريا الفرنسية. واللافت أن اتحاد المؤسسات التربوية الخاصة لا يمثل غالبية هذه المجموعة من المدارس، إذ أن مدارس السابيس تملكها شركة خاصة، بينما البعثة العلمانية الفرنسية تتبع بعثة دبلوماسية أجنبية ولها قنواتها الخاصة مع الوزارة، وقد شهدنا دورها خلال المحاكمات والشكاوى المتعددة التي رفعها أهالي الليسية الكبرى – فردان وتدخل الدبلوماسيين مع وزير التربية السابق مروان حمادة للفلفة القضايا.
مدارس الطوائف المسيحية الأخرى
المدارس الأرثوذكسية وعددها خمس تضم نحو 8 آلاف تلميذ/ة، وهي تتبع مطرانيات بيروت وطرابلس والكورة. وبحسب قوانين الطائفة، لكل مطران استقلالية عن الآخر ولا يتبعون مرجعية واحدة. تنتمي المدارس الأرثوذكسية إلى الاتحاد لكنها ليست فاعلة فيه.
وفيما تنتمي المدارس الإنجيلية إلى كنائس إنجيلية متنوعة ذات سلطات ذاتية، إلا أنها اتفقت في ما بينها على أن يمثلها الأمين العام للرابطة الإنجيلية نبيل القسطا. وهي 6 مدارس كبيرة تضم نحو 8500 تلميذ/ة.
ولكل من المدارس الأرثوذكسية والإنجيلية امتدادات بين المدارس الأقل حجماً، لكنها غير مؤثرة كالمدارس الكاثوليكية.
المدارس ذات المرجعية الشيعية
عددها 16 مدرسة كبيرة، تضم نحو 28 ألف تلميذ/ة، وتمتد إلى مدارس أصغر موزعة في مناطق الجنوب والبقاع. تعود مرجعيات المدارس الشيعية إلى ثلاث جهات: جمعية المبرات وحزب الله وحركة أمل. وهناك كلام عن أن مؤسسات المبرات التربوية تنتمي إلى الاتحاد لكي لا يأخذ منحى طائفياً، ولكنها تتميز عن باقي المؤسسات، وإن كان ممثلها يشارك في العديد من لقاءات الاتحاد.
مدارس الجمعيات والشخصيات السنيّة
18 مدرسة تضم نحو 30 ألف تلميذ/ة (إضافة الى مدارس أصغر حجماً) يتوزع أصحابها بين أفراد ومؤسسات دينية وجمعيات: منها جمعية المقاصد. لكن اللافت أن هناك ست مدارس تابعة لمؤسسة الحريري تضم وحدها نحو ثمانية آلاف تلميذ، تملكها عائلة الحريري ولا سيما النائبة بهية الحريري. علماً أن الأخيرة هي رئيسة لجنة التربية النيابية ما يتعارض بشكل فاضح مع الحوكمة الرشيدة والشفافية، فلا يجوز أن يكون من يسنّ القوانين التربوية ويُقرها من أصحاب المدارس.
جمعية المقاصد، هي أيضاً عضو فاعل في اتحاد المؤسسات التربوية، لكنها تنكفئ حيناً وتظهر حيناً تبعاً لمصالح الجمعية، اليوم نرى انكفاءً ملحوظاً وخصوصاً بعد تعذر الجمعية في المحافظة على كبرى مدارسها ولجوئها أخيراً إلى إقفال تسع مدارس بسبب تعثّرها.
مدارس متفرّقة
هناك مدارس خاصة أقل حجماً أو تضم أقل من 1000 تلميذ/ة، ويعود القسم الأكبر منها إما إلى شبكات تابعة للطوائف الثلاث الكبرى ولا سيما الكاثوليكية أو إلى أفراد. ونلاحظ أن للأفراد الحصة الأكبر عددياً وخصوصاً بين المدارس التي تضم أقل من 500 تلميذ/ة.
في المقابل نلاحظ، بناءً على دراسة سابقة أن 173 مدرسة من أصل 1061 منها لا تستوفي الشروط الدنيا لناحية تغطية ساعات التدريس من قبل المعلمين ما يحتم سحب رخصها نهائياً.
يحاول العديد من هذه المدارس الإفرادية شقّ طريقه بمعزل عن اتحاد المؤسسات التربوية بتشكيل تجمعات وروابط منفصلة على اعتبار أن مصالح الاتحاد لا تتقاطع مع مصالح المدارس الصغيرة.
وبناءً على الأرقام الواردة في دليل المدارس عن المركز التربوي للبحوث والإنماء، نستنتج أن 35% من تلامذة لبنان البالغ عددهم 559 ألفاً في المدارس الخاصة غير المجانية يتابعون دراستهم في المدارس الكاثوليكية التي تتبع إدارة مركزية هي الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية، بينما يدرس 40% من التلامذة في مدارس علمانية أو تابعة لشركات خاصة وأفراد متنوعين ولا مرجعية مركزية لهم. ويدرس 25% في المدارس الباقية التابعة لبقية الطوائف المسيحية الأخرى والطوائف الاسلامية.
عطّل «الكارتيل» آليات المحاسبة القانونية بتعطيل المجالس التحكيمية
بالتأكيد ما من أحد ينكر دور هذه المؤسسات في رفع مستوى التعليم في لبنان، وليس هذا موضوع الدراسة، بل هو عرض موضوعي يُظهر محاور النفوذ لما صار اليوم يُسمّى بـ «كارتيل المدارس». وهو مؤلف من شبكة المدارس الكاثوليكية، بتغطية من مدارس المقاصد والمبرات والمدارس الإنجيلية، وإلى جانبها مؤسسات الحريري التربوية التي لها نفوذ في وضع السياسات التربوية والقوانين، مترافقاً مع نفوذ البعثات الدبلوماسية ولا سيما الفرنسية من خلال بعثاتها التعليمية.
ليس بالضرورة اتفاق هذه المكوّنات على ورقة مشتركة أو برنامج واضح، فهي، بالاتفاق الضمني، في ما بينها لا تمس أي منها مكتسبات الأخرى بل تحميها وتدعمها عندما تدعو الحاجة، ولكل مجموعة دورها الذي تلعبه إن بسنّ القوانين، أو بالضغط على الوزارة لحماية مصالحها أو بتهديد الوزارة بالإغلاق أو بإيجاد مخارج عند الأزمات.
نحن فعلًا أمام كارتيل مشابه للمصارف، فتعميم مصرف لبنان إن لم يُرض كامل الشركاء من المصارف ويؤمّن لهم ربحاً لن تنفذه المصارف، وستبقي على أموال المودعين محجوزة وبشكل غير قانوني. كذلك مدارس الكارتيل، لا يمر أي تعميم من الوزارة لا يرضيها أو يمس أرباحها وهي قادرة على وضع الوزارة والدولة أمام أزمة تربوية عميقة، لن تستطيع إيجاد حلول لها، وتجعل من التلامذة رهائن حتى تنال ما تريد.
لا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بالتفكير بالتحرر من سلطة الكارتيل، ووضع خطة بديلة، وفتح باب المدارس الأهلية والمدارس البديلة أمام الناس كافة، وتسهيل إنشائها بقوانين، تمهيداً لتجهيز المدارس الرسمية كي تكون قادرة على استيعاب جميع تلامذة لبنان، ليصبح الانتساب إلى المدارس الخاصة خياراً وليس فرضاً.