“التربية” استقالت من مسؤولياتها ووزيرها يعِد بـ 500 مليار
بعد أن كبرنا ونحن نسمع أن “العلم نور”، أتانا من دعانا أن نزرع لأن “الزراعة تسدّ الجوع”، وبين بين أطلّ من ذكّرنا “أن الزراعة تسدّ الجوع، والصناعة توفّر الإحتياجات، لكن التعليم وحده يزرع وطناً”… فهل من “ينغلون” في بلادِنا، في الشكلِ، يؤسسون لوطن؟
في زمنٍ يشتدّ فيه الكلام عن الحرب والسلاح والإنتصارات الفارغة نتذكر نلسون مانديلا الذي قال: “التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم”… فهل نحن في أمان؟ وماذا عن سلاح الجهل الذي نتقارع معه وينتصر علينا بإقفال مدرسة تلو مدرسة؟ وهل من رؤية تُبعد النهايات الحزينة عن قطاع التعليم في لبنان؟
ها قد دخلنا في شهر تموز، الذي يفترض فيه أن تكون المدارس في لبنان قد وضعت الموازنات وجددت التعاقد وأسست لسنة مقبلة تتمناها ناجحة، لكن ما يحصل أن أصحاب المدارس والمدراء والأساتذة يندبون السنة المقبلة وهم يُشيّعون السنة الآفلة. فالرؤى تكاد تغيب والتمنيات بسنة أفضل محال والخطوات المرجوة مستبعدة ووزارة التربية في لبنان في ما يُشبه “غفوة الموت”.
راعي أبرشية بيروت المارونية المطران بولس عبد الساتر الذي يستحق وبامتياز لقب “مطران الفقراء” والذي سبق وفتح أبواب مدارس الحكمة “أمام جميع طلابها”، انطلاقاً من يقينه “بضرورة ألا يكون القسط المدرسي عائقاً أمام أي طالب راغب في العلم”، يحاول الآن أن يلاقي مجدداً حلاً مناسباً “لمدارسنا وطلابنا ومن يعملون معنا”. يبدو صوت سيادة المطران خافتاً. يبدو حزيناً. وكيف لا وهو يُدرك ما وصلت إليه البلاد والعباد وبات التفكير بأبعد من اللحظة محالاً ويقول: “كل شيء في البلد يتغير. هناك مدارس أعلنت إقفال أبوابها بعدما تعذرت عليها المتابعة، بعدما فقدت قدراتها المالية، لكن على عكس كل ما يعلن عن أرقام ونسب إقفال للمدارس الرهبانية، والتي قيل إنها بلغت السبعين في المئة، فإن معلوماتي تقول إنها أقل. وماذا عن تجربة مدرسة الحكمة في عدم إقفال الباب أمام طلاب العلم؟ يجيب: “نحن نحاول تخفيف المصاريف التشغيلية الى الحدّ الأدنى، ونتعاون مع المعلمين لتخفيف المصاريف العامة. نحن نحاول أن نصمد”.
الرئيس العام للرهبانية الأنطونية الأباتي داوود رعيدي ينفي وجود صورة، ولو مبدئية، لشكل وأبعاد السنة الدراسية المقبلة ويقول: “صراحة، الصورة غير واضحة، والجميع في انتظار التطورات في أيلول لاتخاذ المواقف المؤاتية. والمؤسف جمود الدولة وعدم إبلاغ أطراف هذا القطاع عن رؤيتها، وعن كيفية مساهمتها من أجل ضمان مستقبل الجيل الجديد. يبدو أن بيلاطس البنطي هو شفيع دولتنا التي غسلت يديها، كما فعل هو، بعدما حكم على يسوع. فالقطاع السياحي انتهى، والقطاع الإستشفائي يكاد ينتهي، والبنوك انتهت، والقطاع الإقتصادي انتهى، والقطاع التربوي قد ينتهي. فماذا يبقى من مقومات الدولة؟ نسيت الدولة أن كل شيء يباع مرة واحدة. وما يُباع اليوم لن يُشترى غداً. وسيُصبح صعباً جداً إعادة إحياء ما مات”. ويستطرد: “ليتنا نفهم ماذا تريد الدولة، ليت وزير التربية يبلغ هذا القطاع عن رؤيته الأولية وعن الخطط البديلة. ليت وزارة التربية تتذكر أن خروج 100 ألف طالب من المدارس الخاصة الى المدارس الرسمية يحتاج الى أكثر من عشرين ألف أستاذ بينما يكفي هؤلاء 10 آلاف في المدارس الخاصة. ليت وزير التربية يُخبرنا كيف يمكن أن نكون مستعدين في أيلول لتعليم الطلاب منهاج العام الماضي ستة أسابيع وكيف ننتقل الى منهاج السنة الجديدة؟ كيف يبيع ويشتري الطلاب كتبهم في غضون أيام؟ نحن نتكلم عن مئات آلاف الطلاب لا عن طالبين أو ثلاثة”.
هناك طرحٌ اليوم لكن وزارة التربية تتجاهله حتى اللحظة: ماذا لو منحت الدولة (كما منح التعليم الى القطاع العام) مليوناً ونصف المليون عن كل طالب في المدارس الخاصة؟ وماذا لو قرر مئة ألف طالب الإنتقال اليوم، دفعة واحدة، الى المدارس الرسمية والثانويات؟ كم ستكون كلفة هؤلاء؟ وأي خيار هو الأقل كلفة؟
تبدو وزارة التربية في ما يشبه الكوما. فلنسأل مدراء الثانويات والمدارس الرسمية عن رؤيتهم للسنة الدراسية 2020- 2021. في الأرقام، يبلغ عدد المدارس الرسمية والثانويات في لبنان 1261، وبلغ عدد التلاميذ الذين التحقوا بالتعليم في لبنان للعام الدراسي 2018- 2019 مليوناً و76 ألفاً و616 طالباً. الرقم كبير. وتوزع الطلاب على الشكل التالي: رسمي (334 ألفاً و536 تلميذاً اي ما نسبته 31.07 في المئة)، خاص غير مجاني (565 ألفاً و593 تلميذاً بنسبة 52.51 في المئة)، مجاني (140 ألفاً و312 تلميذاً بنسبة 13.03 في المئة، خاص أونروا (36 ألفاً و375 تلميذاً بنسبة 3,37 في المئة).
قدرة الإستيعاب 80 ألفاً
الأرقام واضحة، ماذا عن الصورة المتوقعة للسنة الدراسية المقبلة؟ يجيب مدير ثانوية كبرى: ثبت حتى الآن أن المدارس الرسمية غير قادرة على استيعاب أكثر من 80 ألف تلميذ. ويهم هنا أن نعرف أن الدولة تساهم في المدارس الخاصة المجانية وعددها 361 مدرسة، حيث تدفع عن كل تلميذ نحو 160 في المئة من الحد الأدنى للأجور، يعني نحو مليون و300 ألف ليرة تقريباً. وموازنة تلك المدارس تبلغ نحو 60 مليار ليرة سنوياً.
حين يُصار الى التحدث عن مساعدات يفترض أن تمنحها الدولة السنة المقبلة الى الطلاب في المدارس الخاصة، فهي تشمل من يحصل من موظفي الدولة والقطاع العسكري والقضاة وأساتذة الجامعات وسواهم من منح تعليمية وفي هذا كثير من الفوضى. فالمساعدات يفترض أن تُعطى الى من لا يحصل على أي مساعدات تعليمية أخرى.
أمرٌ آخر يفترض الحديث عنه وهو أسعار الكتب، التي يتجاهلها المعنيون، وهي ستكون أضعاف ما كانت عليه. والدة طالب ترفّع الى صف الثالث متوسط سألت عن لائحة الكتب في إحدى المكتبات فأتى الجواب صاعقاً: الكتب التي كانت تباع بأربعمئة ألف ليرة أصبحت بمليوني ليرة. ثمن الكتب يعادل نصف كلفة القسط تقريباً. الكتب في المدارس الرسمية والثانويات تبقى أقل وهي تعتمد على إصدارات مركز البحوث وكانت تقدر بمئة ألف ليرة وباتت بـ400 ألف.
كلام كثير يُحكى في الأروقة عن أرباح دور النشر والنسب المئوية التي تعطى الى بعض المدارس من أجل الترويج لكتب معينة لكننا لسنا بصددها الآن. اليوم، يشعر الجميع بحماوة المرحلة وبالخطر المحدق. وبالتالي، ماذا لو قرر الأهالي إرسال أولادهم الى المدارس الرسمية؟ يجيب المدير: مدير عام وزارة التربية فادي يرق قال في لقائه الأخير مع السيدة بهية الحريري أن قدرة المدارس الرسمية الإستيعابية لا تزيد عن 80 ألفاً. وهذا يفترض أن تنتبه إليه الدولة قبل أن يحين شهر أيلول. وإن أقفلنا عيناً وفتحنا أخرى نجد أنفسنا في أيلول. في كل حال، يهم أن تعرفوا أن كلفة التلميذ في مدرسة رسمية تضم في صفوفها بين ثلاثين وأربعين طالباً تتراوح بين 4 ملايين و6 ملايين. أما المدارس الصغيرة التي تضم أعداداً أكبر فالكلفة فيها أعلى. لذا فلتختر الدولة باكراً أي قرار أفضل لها أو أسوأ لها قبل فوات الأوان.
قرار وزارة التربية يفترض أن يأتي سريعاً لكن معاليه الذي كان مستشاراً في مجلس شورى الدولة، مدة عشرين عاماً، لم يتبوأ يوماً رئاسة غرفة، لأن الرئاسة تحتاج الى قرار وهو لا يحب اتخاذ القرارات، يعلق مرجع في إحدى المدارس الكاثوليكية.
نعود الى الأباتي داوود رعيدي الحزين جداً على الوضع التعليمي ونصغي إليه وهو يخبرنا: “كل الدول التي طورت نفسها في العالم بدأت بالتعليم. خذوا مثلاً تايلند. التعليم يُخرج الإنسان من الفقر، وإذا خسرناه نكون كمن يهجم بنفسه، بقدميه، نحو الفقر. ويستطرد: جربوا الأمية تعرفوا مدى رخص كلفة التعليم. من دون المدرسة ستُخرّجون “زعراناً” وأدوات حرب. كوريا الجنوبية تملك قنابل نووية لا خبزاً. فهل تريدون أن نتحول الى كوريا الجنوبية؟ ثمة أنظمة تهوى جمع القنابل لا تعليم الأجيال وإطعام الخبز. وهنا، نسوا أن من لا يتعلم في شكل جدي بين عمر العاشرة والخامسة عشرة يضيع. لا يمكننا أن نقول لطالب بلغ سن الرابعة عشرة سنعيدك الى سن الثانية عشرة لأننا كنا مشغولين عنك”.
في الأرقام، يتحدث الأباتي رعيدي عن سداد 53 في المئة من الأهالي الأقساط “لكن إذا لم نصل الى سداد 73 في المئة ستبقى المدارس في دين للأساتذة. والمدارس الكاثوليكية التي تضم 60 ألف أستاذ و25 ألف موظف تسدد إما مئة في المئة للأساتذة الذين يتقاضون ما دون المليون، أو بين 50 و75 في المئة لمن يتقاضون أكثر، أما من يتقاضون معاشات أعلى بكثير فيقبضون بين 30 و50 في المئة من أجورهم. تحاول المدارس أن تكون عادلة وأن تقتسم مشاكل هذه المرحلة مع أساتذتها وأولياء أمر طلابها. هي تحاول ذلك في انتظار إجراء ما من الدولة الكريمة. يبقى أن لسان حال من يتابعون أحوال قطاع التعليم في لبنان ان “وزارة التربية استقالت من مسؤولياتها لكن الوزير ما زال يتربع على كرسيه”.
تُرى هذه حال وزارة التربية وحدها أم حال كل الوزارات، والحكومة بأمها وأبيها، حيث نرى من تولوا أمرنا ينظرون الى الأزمات التي تلوي الظهر من بعيد لبعيد، بحجة أنها تراكمات من ثلاثين عاماً مضت! عاجزون؟ فليستقيلوا! وغروب أمس أشرق معاليه بعد جلسة مجلس الوزراء ليُعلن تخصيص 500 مليار ليرة لبنانية لدعم القطاع التربوي بما في ذلك المساهمة في دفع أقساط التلاميذ في المدارس الخاصة غير المجانية. وزاد: تعمل الحكومة من خلال وزارة التربية على إعداد مشاريع قوانين تتعلق بشؤون القطاع التربوي. ليته إكتفى بخبر “الدعم” لأن الوقت لم يعد متاحاً لـ “إعداد المشاريع” الطموحة. الواقع يحتاج الى قرارات إستثنائية الآن الآن وليس غدا.