إلى المواطنين والقرّاء الكرام،
استكتبني كلٌّ من سمير قصير وجبران تويني هذا المقال، وها أنا أنقله إليكم بتصرّف.
لم أعد أرغب في الكتابة عن “14 آذار”. لقد ضجرتُ من حاملي الشعار وسارقي الفرصة. مثلما ضجرتُ من خصومهم الذين لا يستحقّ أكثرهم منّي – بل جميعهم تقريباً – سوى الازدراء.
لم يعد ثمة شيءٌ يُدعى “14 آذار” لكي أكتب عنه أو أحتفل به. أقول مع القائل: دعوا الموتى يدفنون موتاهم. الذكريات عندما تصبح جثثاً عفنة، يجب تغريقها بالأسيد منعاً لانتشار وباء الحنين المتقوقع، الذي يجزّ ورود الأمل عن بكرة أبيها. وقد دفنتُ ما ينبغي لي أن أدفنه، محتفظاً بالجوهر في رأسي، محصِّناً إيّاه، دارئاً عنه وقاحة الصغار المتنطحين إلى تشويهه وتخريبه وقتله. وما أكثر الصغار المتنطحين!
أولئك الذين اجتمعوا في ساحة رياض الصلح، يوم الثامن من آذار، هم الذين، في ما بعد، قتلوا “14 آذار”.
أولئك الذين اجتمعوا في ساحة الشهداء، يوم الرابع عشر من آذار، هم الذين، في ما بعد، قتلوا “14 آذار”.
وما دمتُ أُعلِن على الملأ، وبحبر هذا المنبر بالذات، ما أفكّر فيه، وأعتقد به، في هذه المناسبة المعلومة، ففي مقدوري، والحال هذه، أن أتحامل على جروحي، وعلى جروح المواطنين الأحرار الكثيرين، من أهل الوجدان الأَنوف، وأكتب في إطار الذكرى الحادية عشرة لذلك الحدث التاريخي المشهود، الذي أفضّل أن أُطلق عليه تسمية “اليوم القتيل”.
ها هي الفظاظة الصريحة تنكزني بمسّاس الصدق والشجاعة الأدبية، وتبارك ما أكتب. أما الرقابة الداخلية والذاتية المفترضة فلن تمارس صفاقتها عليَّ. فلأكتب، والحال هذه، لأن الموضوع يعنيني شخصياً، وجروحي من جرّائه لا تزال تنزف في أعماق رأسي بعدما اندملتْ ظاهراً (هل اندملتْ حقاً؟!).
مَن يريد مرتزقاً للكتابة عن لبنان، وعن معنى “14 آذار”، فلن يعجزه البحث عن مرتزقة. ومن يطلب سمساراً، فليبحث عنه في سوق السماسرة. ومن يريد مدّاحاً، فليذهب إلى المدّاحين. ما أكثر هؤلاء جميعاً، في صفوف الثامن من آذار، كما في صفوف الرابع عشر منه. إنهم يملأون دهاليز الضمائر العفنة، مثلما تغصّ بهم الأرصفة وكهوف الآلهة والسفارات والأحزاب والتيارات والطوائف والمذاهب.
أكتب عن “14 آذار” كما أفكّر وأحلم، متحرّراً من أشدّ الرقابات خطراً على الكتابة. هكذا لا أجد أيّ حرجٍ أو ارتباك. وهل أجمل من أن يكرهني حَمَلَة الشعار وسارقو الفرصة، بالقدْر الذي يكرهني فيه خصومهم!
مهنتي أن أكتب بحرية، لا أن أفعل شيئاً آخر.
أكتب ما أكتب في هذه المناسبة، “محتمياً” بشخصين عزيزين على قلبي: سمير قصير وجبران تويني. الأول بينهما، لأنه ساكن ضميري، وصديقي وأخي، الذي قاسمْتُه شقاوة القلم وأشجان الخبز والزيتون والحرية. أما الثاني فلأن حبر هذا المنبر ينوب عن كلّ تذكيرٍ بالأسباب، ولأن الشرح لن يكون بقيمة المعنى.
لن أتوجّه في الكتابة إلى السعودية ولا إلى إيران، باعتبارهما تتنازعان التنازع السياسي والديني الرهيب فوق أرض لبنان، وفي سائر الأرجاء الإقليمية، بل أقول لأطراف الطبقة السياسية اللبنانية برمتها، لقد بلغ الانحطاط بكم كلّ مبلغ، بحيث بات من المستحيل أن يستمرّ لبنان بوجودكم. لو كان ثمة ذرّة من الكرامة، لكان ينبغي لكم الانتحار، أو الانكفاء، أو الاعتذار العلني من الحالمين والأحرار والناس الطيّبين. لكن، ما لجرحٍ بميتٍ إيلام، على قول المتنبي.
وأخاطب في شكل خاص “حزب الله”، قائلاً له إن وجود لبنان لا يتحمّل عبئاً عسكرياً وأمنياً كهذا العبء الديكتاتوري الذي ترخي به فوق جسم الجمهورية، وإن يكن بعض هذا العبء يهدّد الكيان الصهيوني، عدوّنا الأبدي.
هل نسيتُ أحداً؟! رجال الدين مثلاً؟ النظام السوري المتوحش؟ التكفيريين؟… يعزّ عليّ في هذه المناسبة ألاّ أسمّي الجميع فرداً فرداً، وطرفاً طرفاً. فليكن معلوماً أني أعني الجميع. ولا استثناء.
أما “رفاق” سمير قصير وجبران تويني في “14 آذار”، فلا يسعني إلاّ أن أخصّ غالبيتهم الساحقة بالشفقة، وبالاتهام أيضاً، لأنهم دون المستوى (ألا ينبغي لي أن أصفهم بالصغار؟!). بل هم أيضاً، قَتَلَة، من حيث يدرون، أو لا يدرون.
لهؤلاء جميعهم، في الداخل قبل الخارج، أقول: إذهبوا إلى الجحيم.
… أما الجوهر، جوهر القضية، فموضعه الحقيقي في الرؤوس، وهي موطن الأحلام.
لن يستطيع أحدٌ، مهما بلغ جبروته، أن يقتل الأحلام. فمن نزيفها سينبت وردٌ كثير، وستزهر حقول الورد الجريح لتغمر بالأمل دموع البيوت ونوافذ القلوب الثكلى، وسيهدر نهر الأحرار بجموع المدنيين الديموقراطيين العلمانيين، الذين سيحملون المشعل، ويضيئون لأبنائنا الطريق إلى لبنان!