التعرّض للعمود رقم 9، كرّ وفرّ بين القوى الأمنية والأهالي المعترضين، اجتماع غير مثمر بين المتضرّرين ووزيرة الطاقة… هذه عيّنة مما يحصل في منطقة المنصوريّة جراء استكمال تمديد شبكة التوتر العالي في خط بصاليم – عرمون – تفرّع المكلس. الأهالي متمسّكون بالدراسات نفسها التي استخدمها الفريق السياسي للوزيرة ندى البستاني لاقناعهم بالضرر منذ عام 2008
عقب آخر اجتماع، في 10 الجاري، بين وزيرة الطاقة ندى البستاني والأهالي المعترضين على «وصلة المنصورية»، يرافقهم الاختصاصي في طب المجتمع والوبائيات البروفيسور سليم أديب، أصدرت لجان «أهالي وطلاب منطقة تلال عين سعاده، عين نجم، عين سعاده، بيت مري، عيلوت والديشونية وائتلاف جمعيّات المجتمع المدني» بياناً أشار الى «استياء الوزيرة حين حاول البروفيسور أديب شرح المخاطر الصحية المحتملة لخطوط التوتر العالي». الوزيرة شدّدت، في الاجتماع وبعده، على «أن الخطوط ستمر هوائياً وهي غير خطيرة ولا تؤثّر على الصحة، وأن الدولة ستعمد إلى شراء منزل من يحسب نفسه متضرراً». فيما اعتبرت لجان الأهالي حلّ شراء الشقق بمثابة «تهجير قسري مرفوض بالقانون والدستور وشريعة حقوق الإنسان»، وأن الدراسات والتقارير التي تستند إليها الوزارة «قديمة ومرّ عليها الزمن»، لافتةً الى أن أديب هو من «أخذ الرئيس ميشال عون بدراسته ليبني موقفه عام 2008 تأكيداً لوجود ضرر».
البروفيسور أديب، أستاذ طب المجتمع والوبائيات في الجامعة الأميركية في بيروت، شرح لـ«الأخبار» أنه «لا يمكن علمياً اختبار التوتر العالي على البشر، وانتظار ظهور تأثيره عليهم. فجمع المعلومات العلميّة يتمّ بشكل تراكمي، وهذا ما حدث منذ الثمانينات حتى توصلت الوكالة الدوليّة لبحوث السرطان إلى وضعه في قائمة المسبّبات الممكنة للسرطان. المنظمة استندت في تصنيفها إلى حالات في النرويج والجزائر واليابان وإيران، حيث ارتفعت في المجمعات السكنية القريبة من خطوط التوتر حالات اللوكيميا بين الأطفال بمعدّل ضعفين عن المناطق الأخرى». أديب أكد أن «لا شيء يوقف الحقل الكهرومغناطيسي، الناتج عن خطوط التوتّر، سوى المسافة»، موضحاً أن «الحل هو بطمر الخطوط في الطرقات العامة مما يبعد الحقول عن غرف نوم الأطفال التي ينامون فيها لأكثر من 8 ساعات متواصلة، فيما خلاياهم تنمو بوتيرة سريعة».
يذكّر أديب بـ«أن نواب المتن طلبوا مني، في الماضي، الاطلاع على تقرير مؤسسة كهرباء فرنسا (EDF)» حول وصلة المنصورية، وتبيّن حينها «أن الكابلات تبعد عن المباني السكنية نحو 30 متراً، وهي منطقة خطر. إذ أنها يفترض أن تفوق المئة متر». المعضلة الأخرى تكمن في تقرير آخر، بالانكليزية، رفعه أديب وباحثون آخرون إلى وزارة الصحة في عهد الوزير محمد جواد خليفة، «وهو استند إلى إثباتات عن وجود ضرر وخلص إلى ضرورة اتخاذ إجراءات احترازية». وفق أديب، لاحقاً، «فوجئنا بأن التقرير الموزّع من قبل الصحّة بالعربيّة، قدّم شرحاً لا علاقة له بنتائج تقريرنا! ومنذ ذلك الحين الجميع يستشهد بتقرير الوزارة المغلوط من دون العودة إلينا كباحثين». المشكلة الأخرى تكمن، بحسب أديب، في «الاعتماد على رأي منظّمة الصحّة العالميّة، خصوصاً مكاتبها الفرعيّة في بيروت أو سواها. إذ لا يمكن للمنظّمة أن تضيف شيئاً على ما خلصت إليه الوكالة الدولية لبحوث السرطان التابعة لها، بأن الحقل الكهرومغناطيسي مسبب محتمل للسرطان». ويخلص الى أنه، «بعد عقدين من التسليم بأن التلوث الكهرومغناطيسي خطير، وفي حين يتّجه البحث العلمي إلى إثبات ضرر الهاتف المحمول، كيف نعود أدراجنا إلى البحث في مخاطر التوتر العالي؟ مجبرين الناس على القبول به باستخدام الهراوات!».
لا يمكن علمياً اختبار التوتر العالي على البشر وانتظار ظهور تأثيره عليهم!
يذكّر الرافضون لاستكمال تمديد شبكة التوتر العالي، ووصولها إلى عتبة الـ220 ألف فولت الخطيرة، بقانون البيئة (444/2002) الذي يفرض تطبيق مبدأ الاحتراز لدى وقوع الشكّ بوجود ضرر محتمل. الوقاية والاحتراز يسبقان، بالنسبة للبيئيّين، مبدأ «الملوث يدفع»، خصوصاً لدى حدوث تباين في الآراء العلمية حيال ضرر ما على البيئة أو الناس. الأستاذ في كلية الهندسة بالجامعة اللبنانية الدكتور طنوس شلهوب، صاحب عدد من الدراسات في السلامة المهنيّة، يوضح «أن الخطر ينشأ على الإنسان في حال عدم التجانس بين منظومة جسده والعالم المحيط. والمقاومة قد تختلف من جسم لآخر نظراً لطبيعة جهازنا العصبي الشديد التعقيد، وللطبيعة الفيزيائية المعقدة للحقل الكهرومغناطيسي وكميّة التعرض له، خصوصاً إذا زادت على ثماني ساعات ولفترات متواصلة وطويلة. ففي النتيجة لا توجد علاقة رياضيّة مكتملة بين تأثير هذه الحقول وجسم الإنسان». ويلفت الى أن إحدى الدراسات «أخضعت نساء عاملات في مشغل يعتمد الحقل الكهرومغناطيسي لمراقبة طبية لمدة 10 سنوات بالمقارنة مع مجموعة عاملات (بمواصفات قريبة من حيث العمر ونمط الحياة…) في مشغل لا يتعرضن فيه للحقول الكهرومغناطيسية. والدراسة بيّنت نتائج مقلقة عن تأثير الحقول الكهرومغناطيسية على الجهاز التناسلي لدى النساء ونسب الإصابة بسرطان الرحم وعوارض وآلام أخرى». وباختلاف الزمن ونوع الصناعات وطبيعة خطوط التوتر، يؤكّد شلهوب «أن التعرّض للحقول الكهرومغناطيسية يثير تغيرات حادة في دماغ الإنسان تنجم عنها تغيّرات في ضغط الدم وعمل القلب. وعبور الموجات الكهرومغناطيسية جسم الإنسان، يحوّل طاقتها الى حرارة تسخّن الأنسجة خصوصاً في المناطق غير الدهنية (الدماغ، العيون، القلب، الكلى) التي تتغذّى بشرايين شديدة الصغر لا يكفي تدفّق الدم فيها لإخراج الحرارة منها، مما قد يسبّب تلف هذه الأنسجة». الخلل في وظائف الخلايا واستجابتها العصبيّة ظهر أيضاً، وفق شلهوب «في اختبار آخر على الفئران التي لم تعد إلى طبيعتها بعد رفع الحقل الكهرومغناطيسي عنها».
يميّز شلهوب بين التوتر العالي المنخفض (220 فولت)، الذي «يولد حقولاً كهرومغناطيسية ذات قيمة بسيطة يستطيع جسم الإنسان امتصاص طاقتها، ولذا لا تحتاج أعمدة الكهرباء أن تكون مرتفعة كثيراً عن الأرض»، والتوتر العالي (220 ألف فولت أو أكثر) الذي يجري تمريره «بارتفاعات كبيرة عن الأرض وفي مناطق غير مأهولة بسبب قوة الحقول التي يولدها». لا سيّما أن التوتر العالي قد يؤدي، بتبسيط علمي، إلى «تشكّل دائرة إقفال تزداد في فترات الشتاء مع ارتفاع معدلات الرطوبة وهبوط مقاومة سطح الارض بسبب تساقط الأمطار، وتكون لها نتائج كارثية في حال وجود أسلاك معدنية متعامدة مع اتجاه التيار».
تلحيم الأعمدة خطر
أقدم مجهولون أول من أمس، على نَشْر جزء من العمود رقم 9 من وصلة المنصورية، فعمدت الفرق التقنية التابعة لمؤسسة كهرباء لبنان إلى «تلحيمه» ليلاً، بما يخالف شروط السلامة العامة. أخصائي الجودة الناشط رجا نجيم أوضح أن الفرق التقنية «قامت بتلحيم العمود بالمعدات المتوفرة، من دون اللجوء إلى المستورِد (شركة سعودي كايبل) للكشف على العمود وإبداء الرأي بشأن المخاطر التي قد يسبّبها التلحيم»، محذّراً من أن «الترقيع قد يضرب توازن العمود ويؤدي إلى وقوعه أو التوائه بعد تمديد الكابلات في منطقة تشهد سرعة رياح كبيرة». وطالب بـ«ضرورة كشف المستورد على العمود، قبل استكمال الأعمال عليه لما يسبّبه من خطر، وفي حال عدم وجود وكيل للشركة المستوردة يمكن اللجوء لشركات الجودة المعتمدة».
المسافات الآمنة
يعترض «الائتلاف المدني الداعم لأهالي المنصورية»، على استناد مهندسي مؤسسة كهرباء لبنان على المسافات الآمنة المنصوص عنها في المرسوم رقم 6218 (صادر عام 2001، بشأن تحديد الأحكام المتعلقة بتجهيزات توزيع الطاقة الكهربائية). «الائتلاف» يطالب بتجميد المرسوم 6218، كونه ليس سوى تعديل للفقرة الثالثة من المادة 54 (النواقل الكهربائيّة) من المرسوم رقم 12581 (صادر عام 1969)، والأخير يعنى بالتجهيزات والأعمدة والتركيب والصيانة، ولا يعنى بالمسافات الآمنة الاحترازية للحماية من الحقول الكهرومغناطيسية لخطوط التوتر المرتفع والعالي قرب المنشآت المأهولة. ويطالب الائتلاف بـ«ضرورة استبدال أحكامه بأسس جديدة وفق مبدأ الوقاية، وأن تحتسب المسافات الآمنة الاحترازية وفق أقصى معايير الأمان العالميّة الحديثة… وهي للحقول الكهربائية 0.6 متر للكيلوفولت الواحد، وللحقول المغناطيسية أقلّ من 0.2 ميكروتيسلا»، الأمر الذي جرى تأكيده في المؤتمر العلمي حول التلوث الكهرومغناطيسي في آذار الماضي، في طرابلس.