جهدت «كشّافة الممانعة» يوم انتُخب الرئيس للترويج إلى أنّها نفّذت إرادتها وطوّعت سائر اللبنانيين تدريجياً، وبالتالي فإن وضع حدّ للشغور هو انتصار لها مثلما كان استفحال الشغور انتصاراً لها. لكن هذا الهوس بالانتصار سرعان ما تكشف «غيرة» و«عيناً ضيّقة» من انطلاقة العهد، ومن الزخم الذي حظي به، والقاعدة الشعبية التي تحيط به، والكلام المتوازن، ذي النفحة الاستقلالية التي أتى بها الرئيس ميشال عون، فور انتخابه، وتحذيره «أكبر رأس» من أنه لا خرق للدستور بعد الآن، ثم التواشج بين الرئيس عون والبطريرك بشارة الراعي، عند زيارة الرئيس للصرح، بالضدّ من سياسات التعطيل والعرقلة والفيتوات الفئوية المزاجية والعنجهية.
وهكذا، دخلنا في موجة احتقان واستعراض، تارة برتل من الدبابات والملالات في القصير السورية المهجّر أهلها، وتارة بحركات بهلوانية لملثمين وبلطجية في احدى القرى، برعاية المندوبين المحليين للحرس الثوري الإيرانيّ، ويبدو أن الحبل على الجرار، ولن تكون هذه آخر الظواهر النافرة، هذا إن بقيت الأمور في قيد «العروض» أو «البرفورمانس» بلغة الفن الحديث، ولم ينتقل المحور هذا إلى لغة «الانستليشن» أو «التجهيز» بلغة الفن الحديث نفسها. التحدي ليس فقط «بهلوانياً»، التحدي أمني وبامتياز. اليوم بالذات صار الإقلاع بالعهد، يعني الإقلاع بالحكومة يعني شبكة أمن وأمان للعهد وللبلد.
جيّد أن يكون بالمقدور إحياء عيد الاستقلال السنة، بمعية رئيس للجمهورية، بخلاف الشغور في الأعوام السابقة. لكن المناسبة اليوم هي مناسبة مزدوجة: للضغط باتجاه رفع العراقيل، وقيام تشكيلة حكومة معقولة ومتوازنة في الظروف المتاحة، وبالشكل الذي يمكن بعدها الانصراف الى قانون الانتخابات ثم الاستحقاق العتيد المؤجل. ومن ناحية ثانية، الضغط باتجاه التبرّؤ اللبنانيّ العام من هذه «العروض والتجهيزات» المنافية لكل ما هو وطني ودستوري وميثاقي، والمتعارضة تماماً مع كل ما يمكن أن يمتّ بذي صلة لمفردة قانون، ولسيادة القانون والاحتكام إليه.
الخط البياني لما قاله الرئيس عون منذ خطاب القسم، وصولاً لما قاله أمام الجموع، ثم ما قاله في بكركي، وما قاله البطريرك عند استقباله للرئيس، هو خط يجعل منظومة الممانعة عندنا «مضطرة» لتنظيم هذا النوع من العروض العسكرية والميليشيوية. لماذا؟ بالشكل الفطري الأبسط، الموضوع «ضيقة عين» وحسد وغيرة. بعد ذلك فقط يمكن أن تحضر كل التفسيرات السياسية.
لا إميل لحّود بعد إميل لحّود: هذه هي الحقيقة التي عبثاً يحاول التهرّب منها «حزب الله». لا ميشال عون ولا سليمان فرنجية ولا أيّ من الساسة الموارنة الآخرين بإمكانهم أن يؤمّنوا للحزب ما تأمّن له وقت إميل لحّود.
بالتوازي: ما زال العمل من أجل تحقيق «عزل نسبي» للمشكلات الحادة مع الحزب، بحيث يمكن وضعها في «كرنتينة» معينة، والتقدم في نفس الوقت للإقلاع بالتشكيلة الحكومية وبالعمل الحكومي، هو العمل الذي يستأهل الكدّ، والأخذ والردّ، وحيوية المبادرة، والقدرة على الوصل بين كافة القوى التي شاركت في إنهاء الشغور الرئاسي.
لن يكون هذا «العزل النسبي» سهلاً، لكن السعي من أجله لا مفرّ منه، فالعروض العسكرية والميليشيوية لا يمكن أن يردّ عليها بمنطق آخر، غير منطق «حسناً، قمت بحركة مسرحية مسلّحة لا بأس بها، والآن قل لي ما العمل؟». لا يعني هذا ان هذا النوع من العروض العسكرية والميليشيوية لا يؤثر، لكنه تأثير يميل، تناسبياً، لأن يكون أقل مثلاً، من التأثير الذي مارسته القمصان السود، مجرّد القمصان، على مسار الأحداث، قبل خمس سنوات.
الإسراع بالتشكيل يبقى، في كل الحالات، شبكة الأمان الأساسية لهذا النفس الاستقلالي الدستوري الذي يطبع هذا العهد في بداياته. وهذا متصل أيضاً بتوسيع شبكة الأمان هذه، وتقبّل الآخر في إطارها، أو تقبّل التعددية السياسية للقوى ذات الصلة بحماية هذا النَفَس الاستقلالي الدستوري، وتوسيعه خطوة خطوة.