Site icon IMLebanon

حين تحوّل أستاذ فيزياء ثانوي إلى بائع خردة

 

 

رائحة الأسلاك النحاسية المحروقة لا تصل إلى أنوف “الدولة” 

في بلد «”الخردة”» حيث كل ما فيه مجرد بقايا مبعثرة ومؤسسات مخلّعة ومظاهر دولة «”فارطة”» حتى النخاع، يبرز باعة الخردة في كل مكان في ظلّ سرقات يومية تحصل تحت عين الشمس. كل هذا ونحن نتنشق يومياً رائحة حريق البلاستيك من الأشرطة النحاسية المسروقة لتصبح جاهزة للبيع خردة. فهل حاسة شمّ الدولة أيضا مفقودة؟ وماذا عن محال بيع الخردة التي تفتح بين محل ومحل… محل… في الضواحي والمناطق النائية طبيعياً والمكدّة خردة؟ فلنتابع الموضوع.

…ها نحن نتنشق في منطقة الفنار رائحة البلاستيك المحروق المزعجة. إننا نتنفسها صبيحة كل يوم. الجيش موجود بالقرب من المكان. حاجز قريب لكن لا أوامر بالتحرك فالعين بصيرة واليد أقصر من أن تطال مخالفاً. وصوتٌ يرتفع: «نشتري نحاس أصفر. نشتري نحاس أحمر. نشتري بوردات (bordes)عتيقة. نشتري جنط ألمنيوم ورادياتير وبطاريات وحديد وكل أنواع الخردة». والشغل «عال العال».

 

من زمان كانت الخردة تجارة لكنها اليوم، في ظل السرقات، تفتح من لديهم بعد عيون ترى وأنوف تشم وأسئلة تطرح: ماذا عن تجارة الخردة اليوم؟

 

الصدفة قادتنا الى بائع خردة «قانوني» هو أستاذ مادة الفيزياء بشير جمال الدين. هو تبلّغ قبل عام من وزارة التربية الوطنية قرار توقيف راتبه بطريقة قال انها «غير قانونية» لا بل تعسفية وبوليسية. يومها دعا الأساتذة الذين أوقفت معاشاتهم الى أن يتصلوا به لتقديم دعوى أمام مجلس شورى الدولة بحق خالد الفايد – مدير التعليم الثانوي في وزارة التربية – وكل من هم وراءه لتثبيت حقهم.

 

أستاذُ متفرّغ للخردة

 

مرّ عام. لا الحق أثبت أو استعيد ولا القانون أخذ مجراه ولا العدالة طبقت. وها قد أصبح أستاذ الفيزياء الثانوي صاحب «بورة خردة». فهل أصبح العمل الآن مشرفاً أكثر؟ يبدو نعم. فاللبناني، حامل الإجازات الجامعية، معلّم الأجيال وجد مصدر رزق ينقذه وعائلته من شبح الفقر بعدما أصبح راتبه يعادل حفنة من الدولارات بمعادلة أجور الأساتذة في هذه الأيام.

 

نأسف لذلك، ونعود الى موضوعنا. ماذا عن ظاهرة رواج «بور الخردة» وبائعي الخردة وتجار الخردة؟ هل يشتري هؤلاء «الشرعيون» البضاعة المسروقة؟ ماذا يمنع من ذلك؟ يجيب الأستاذ – بائع الخردة بشير جمال الدين: «منذ زمن، كنت أساعد شقيقي في بيع الخردة في أوقات فراغي، ويوم بدأت الأزمة إنتقلت إليها كلياً. هي عمل يدرّ دولارات طازجة (فريش) فلا نضطر أن نشحذ. قلت لهم بلوا واشربوا مياه راتب الأستاذ الثانوي».

 

صحيح جداً هو كلام الأستاذ الثانوي. نتركه «ينق» من وجعه على مرحلة تعليمية انطوت ثم انتقلنا معه الى واقعه الجديد: «عززتُ طرق التواصل الإجتماعي في عملي في الخردة. فتحت صفحة تحت عنوان: تجارة الخردة في لبنان. وأنشأت غروبات على الواتساب أرسل إليهم ما لدينا من خردة ويرسلون لي ما يحتاجون إليه. وشكلت ما يُشبه الشبكة لعمل الخردة».

 

ونحن نصغي إليه نشعر أننا في مؤسسة لا في «بورة». نسأله: وكيف تتأكد من مالكي الخردة أو سارقيها؟ يجيب «الخردة المسروقة تكون غالباً من الأملاك العامة، أسلاك نحاسية أو ألمنيوم، وهي واضحة للعيان. نعرفها عن بعد، مهما حاول السارقون تغيير شكلها، لأن نحاس الدولة يكون «بولاداً» قاسياً، غير النحاس الأحمر العادي الذي يستخدم في البيوت والمعامل. نحن لا نشتغل بالبولاد. وإذا اشتريناه لا نستطيع بيعه. أساساً، المسروقات تباع في المناطق المشبوهة لا عندنا».

 

دولرة الخردة

 

ثمة مناطق مشبوهة في البلد، الجميع يسمعون بها وكثيرون يعرفونها. والسارقون أذكياء عادة. ثمة تجار يتعاملون مع السارقين. ماذا عن مسار هذا النوع من التجارة؟ يجيب جمال الدين «نشتري الخردة من جامعيها ونبيعها الى التجار وهناك من يصدرونها. خردتنا التي نرميها تصدر الى الخارج. والباعة الصغار لا يملكون مقدرة التصدير «لأن الكونتينر الواحد يسع 13 أو 14 طنا من النحاس الأحمر على سبيل المثال» وإلا كانت تكلفته أكثر من أرباحه.

 

ماذا عن ارباح الخردة؟ الإجابة حاسمة جازمة وسريعة: «كلها دولار من الألف الى الياء».

 

لهذا العين على الخردة. اللبنانيون كانوا يرمونها، واليوم مع الشحّ على اختلاف المستويات، باتوا يجادلون حولها. كانوا يعطون من «يخلصهم» من أغراضهم العتيقة «بخشيشاً» أما اليوم فينادونهم باعة الخردة و»يأخذون ويعطون» معهم دقائق كثيرة كي يتقاضوا ثمن قطعة إضطروا الى التنازل عنها. تغيّر الموضوع كثيراً. حتى باعة الخردة «الشرعيون» تراجع عملهم ووحدهم من يشفطون الأغراض «بتوفي معّن».

 

حديد للبيع برادات غسالات مكيفات للبيع… أصوات باعة الخردة تصدح بقوة. هناك من يقصدون الحاويات على الطرقات العامة وفي زواريب الأحياء يجمعون ما فيها، وهناك من «يلمون» الخردة من البيوت، وهنالك من يسرقونها، وجميع هؤلاء يتوجهون الى البور لبيعها. بيع وشراء الكرتون غير مربح لأن سعر الطن منه 60 دولاراً وكل شيء، لا «يوزن»، غير مربح كثيراً. بيع البوردات أكثر ربحاً ويحصل عليها تجار الخردة من الحواسيب المنتهية الصلاحية والسنترالات العتيقة والهواتف العتيقة. وهذه قد يكون مصدرها، بحسب أحد التجار، السارقين. يقومون بفعلتهم ويبيعون المسروقات «فراطة».

 

المسروقات عديدة. موتورات ضخّ المياه الى الأسطح من أكثرها رواجاً حالياً. المحوّلات الكهربائية أيضاً. الموتورات الصناعية أيضاً وأيضاً. وغالبية من يبيعون المسروقات خردة هم من حملة الجنسية السورية، بنسبة 70 في المئة. وهم يقصدون «بور» محددة، يديرها سوريون، والجميع يعرفونها، موجودة في الجنوب وفي الضاحية الجنوبية وفي بعلبك وطرابلس. هناك آلاف «البور» حالياً ومئات آلاف العاملين أما التجار فثلاثة في كل لبنان وهم: أبو صلاح شحرور وكيل المعادن في البلد، ويعمل أيضا علي خليفة في الغازية، وأحمد السيّد في طرابلس. أبو صلاح هو من يضع، على ذمة أصحاب «البور»، الأسعار. ويتردد إسم علي الشاعر أيضا حين يكون الموضوع بيعاً وشراء والإتجار بالخردة.

 

الأسعار يحددها وكيل المعادن في لبنان. نعم للمعادن وكالة كما مختلف الوكالات الحصرية الأخرى. نسمع في بعض البلاد العربية بمنصب وكيل وزارة المعادن لكن في لبنان للتسميات أبعاد «والبلد كلّه وكالات».

 

هناك خردة لا يبيعها أو يشتريها التجار الكبار ويتم تحويلها الى تجار أصغر، الى علي ش. مثلاً الموجود في شاتيلا، أو الى تجار أصغر أصلهم من مستوطنات هوتين في فلسطين من آل القصيباني وشحرور، أتوا الى لبنان واشتغلوا في الخردة. لكلِ واحد مساحته في المهنة والكل يعمل تحت خيمة وكالة أبو صلاح.

 

في الشكلِ، هناك من يعملون في مهنة بيع وشراء والإتجار بالخردة شرعياً وهناك من يعملون بشكلٍ غير شرعي. هذا عادي في بلادنا. لكن، ما هو غير عادي بالنسبة الى لبنانيين إختاروا هذه المهنة في زمن القلة، أن يشتري التجار من السوريين- جامعي الخردة- لا من اللبنانيين لأنهم يقبلون بأي سعر. ما يهم السوري العامل بالخردة هو تصريف خردته حتى لو باعها بأقل من سعرها وهنا يدفع اللبناني الثمن.

 

رزق كثير

 

منذ زمن، كان الشغل أفضل. هي مصلحة جميلة وفيها رزق وفير. الأستاذ الثانوي مثلاً كان يقبض ما يعادل ألفي دولار شهرياً وكان العمل في الخردة يدرّ نحو عشرة آلاف دولار في الشهر. الآن، إذا قبض ألف دولار من عمل الخردة يقول: كتر خير الله. الأسى يعلّم والفقر يعلّم والحاجة تعلّم. وبشير جمال الدين يبدو نادماً على الأيام التي أضاعها في التعليم.

 

هناك أسرار في المهنة. الكرتون يصير مربحاً متى تعرّض لزخات المطر فيصبح ثقيلا أكثر ويباع أغلى «أساسا إعادة تدوير الكرتون يتطلب نقعه في المياه ثم إعادة صناعته». العمل في الخردة بحاجة الى ترخيص لكن بربكم، إسألوا أي بائع خردة تصادفونه: هل تملك ترخيصاً؟ ونترك لكم الجواب.

 

عمليات البيع والشراء قائمة. الخردة نخالها نحن بقايا ما يفترض أن ينتهي في النفايات لكنها ثروة. وأكثر ما يصدر من خردة من لبنان الى اليونان، في العام 2020 وحده صدرت خردة بقيمة 50 مليون دولار الى هناك. الأسعار تتغير. الخردة بورصة أيضاً. لكن، ما يحصل في لبنان أنها باتت «حقل ألغام» يترصدها السارقون نهاراً ويسرقونها في الليل أو النهار ويبيعونها لتنتهي في اليونان أو سوريا أو في اي مكان آخر. وهذا هو لبّ المشكلة الذي يجعلنا ننظر الى «الصنعة» اليوم من مدخل آخر مختلف تماماً عما كان. السرقات اصبحت حلقات يومية وتتضمن كل ما خف وزنه وغلا ثمنه وكل ذلك من دون الإكتراث لا الى قوى أمنية ولا الى رائحة ولا الى سؤال وجواب.

 

خبر وصل للتوّ: سارق غير محترف يسرق البطاريات في النبطيه وقع في شباك القوى الأمنية. هو واحد من آلاف، كي لا نقول أكثر، تنتهي مسروقاتهم في «البور». لكن، على من تقرأ مزاميرك يا داوود. فالبلد منهوب. الناس منهوبون من دولتهم. والبلد كله «بورة».