بعد تَدمُر، هناك مَن باتَ يفكّر في إمكان أن يتحقّق سيناريو مشابه يكون بطله «داعش» في لبنان، ومسرحُه البقعة التي اندلع فيها القتال حديثاً وفجأةً، من جرود الهرمل وعرسال… وصولاً إلى وادي خالد في الشمال. وهذا السيناريو، إذا تحقَّق، ستعقبه سيناريوهات تكون لها انعكاسات عميقة على مسار التحوُّلات في لبنان.
بالتزامن، خسر «داعش» مدينة تَدمُر لمصلحة نظام الرئيس بشّار الأسد، لكنّه سارع إلى أن يربح عرسال وجرودَها وسائر القلمون من جبهة «النصرة»، وتحرَّشَ بمواقع الجيش اللبناني شمالاً في محاولة للعبور إلى وادي خالد.
الصورة للمراقب عن بُعد تبدو أشبَه بالشطرنج أو بتركيب «بازل»، حيث يجري نقلُ الحجارة من مربّع إلى آخر ضمن خطة مترابطة.
البعض يعتقد أنّ ما جرى في تَدمُر هو انتصار للأسد. ولكن، في المعارضة السورية مَن يسأل: أليس في الأمر ما يثير الأسئلة؟ فكيف يتقدَّم جيش الأسد في صحراء حمص ويسيطر على تدمر بهذه السهولة، بعد توقّف الدعم الجوّي الذي قدَّمه الحليف الروسي؟
وإلى أين لجَأ مقاتلو «داعش» الهاربون من تَدمُر، وهي مدينةٌ – جزيرةٌ في الصحراء، ولا يمكن لأحد أن يغادرها من دون أن يكون مكشوفاً تماماً. فهل تمّت تصفية جميع الـ»داعشيين» في تَدمُر؟ أم جرى فتحُ الطريق لهم كي يخرجوا؟ كيف، وإلى أين؟ ويذهب البعض إلى القول بعملية «تسليم وتسَلّم» بين «داعش» والنظام.
وتقود هذه الأسئلة إلى ما يتردّد في أوساط متابعة عن أنّ التنظيم الذي يبدو في الظاهر مُغالياً في القتال الجهادي السنّي هو في الواقع عنوان لجماعات مختلفة تستفيد منه، وتُحرّكها محاور إقليمية مختلفة وبعضُ القوى العربية الغنية، فيما الجماعات السنّية السَلفية الحقيقية لا قرار لها في معظم خطوات «داعش» الكبيرة.
والذين تابَعوا ما جرى في تَدمُر، توقّفوا عند تزامنِه مع الاشتباكات والتحرّشات التي افتعَلها «داعش» في المناطق الحدودية، في البقاع والشمال اللبنانيَين، وطرحوا أسئلة جدّية عن احتمال وجود ترابط بين المشهدين في تدمر ولبنان.
وليس جديداً سعيُ «داعش» إلى التمدُّد من سوريا إلى لبنان والسيطرة على مناطق بقاعية وشمالية، ما يفتح له الطريق إلى منفذ على البحر بين طرابلس وعكّار. وهذا المخطّط سبق لقائد الجيش العماد جان قهوجي أن تحدّث عنه. لكنّ اللافت اليوم هو التوقيت.
وتتناسَب هذه المخاوف مع ما يجري حاليّاً في سوريا من ترتيب تفصيلي للمواقع والخرائط ساهمَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تكريسه، بالتفاهم مع واشنطن، ما يوفِّر للأسد منطقة نفوذ آمنة، وللأكراد كذلك، وللسُنّة منطقةً أو أكثر.
ويقول البعض: عندما ينسحب «داعش» للأسد من منطقة في سوريا ويحاول على الفور اجتياحَ مناطق سنّية في لبنان، فهذا يثير احتمالَ أن يتخلّى عنها لاحقاً للأسد أو لحلفائه أو الإثنين معاً. وما يحاول «داعش» السيطرة عليه في لبنان هو المنطقة السنّية لا الشيعية، لكنّه قد يأخذ في طريقه قرى مسيحية أو شيعية.
وإذا حصَل ذلك، أي إذا نجحَ «داعش» في طرد «النصرة» واحتلال عرسال وجرودها والجزءَ السنّيَ من الشمال اللبناني، وأصبحت هذه البقعة في يده، فإنّه سيَجعل من هذه المنطقة عرضةً للاستهداف المشروع باعتبارها أسيرة التنظيم الإرهابي. ويمكن توقُّع أن يتدخّل الأسد وحلفاؤه، بغطاءٍ من القوى الدولية، لـ«إنقاذها» من أيدي الإرهابيين.
في هذه الحال، قد يتكرَّر في تلك المناطق السنّية اللبنانية، المحاذية لمنطقة نفوذ الأسد، سيناريو «الانهزام الداعشي» في تَدمُر، فتسقط تلك المنطقة بكاملها.
ولكن، هناك مَن يستبعد هذا السيناريو تماماً لسببَين:
– الأوّل هو عدم الاقتناع بأنّ بعض المواقع في «داعش» ينسِّق مع الأسد.
– الثاني هو عدم الاقتناع بأنّ الأسد الذي لا يكاد يسيطر على مناطقه الحيوية في سوريا يستطيع التمدُّد مجدّداً إلى لبنان وخرق الحدود الدولية والقرارات الدولية التي أخرجَته في العام 2005.
لكنّ هذا البعض لا يستطيع تفسير عمليات المقايضة الموضعية التي جرَت بين الأسد و»داعش» في غير منطقة سوريّة، منذ ظهور التنظيم الإرهابي، وربّما تكون تَدمُر واحدةً منها. كما لا يستطيع تفسير واقع «عدم الاعتداء» بين الطرفين أحياناً كثيرة. فالضغوط الحقيقية على مناطق الأسد، قبل التدخّل الروسي، جاءت إجمالاً من «النصرة» وحليفاتها وليس من «داعش».
وأمّا في ما يتعلق بالموانع التي تَحولُ دون خرقِ الأسد للحدود اللبنانية والقرارات الدولية، فيَجدر التوقّف عند واقعَين:
1- إنّ المتقاتلين اللبنانيين في سوريا، إلى جانب النظام وضدّه، مسَحوا الحدود والقرارات الدولية ذهاباً وإياباً، من دون أن يتحرّك المجتمع الدولي لمنعِهم. فلماذا يُمنَع الأسد من القيام بذلك، خصوصاً إذا كان يَرفع شعار التصدّي للإرهاب التكفيري.
2- إنّ تسليط الضوء في الأسبوع الأخير على انعدام وجود حدود واضحة للبنان من كلّ الجهات يَدعم نظرية «البلد الفَلتان» والمخلّع الأبواب.
إنّ سيناريو التبادل بين «داعش» والنظام السوري وحلفائه، إذا جرى في البقاع والشمال السنّيَين، على الطريقة التدمرية، ستكون له تداعيات استراتيجية بالغة الأهمّية، لأنه سيَعني سيطرةَ الأسد على تلك المنطقة.
وهذا الأمر، إذا حصَل، من شأنه أن يفسِّر كيف سيتمكّن الأسد من ربط منطقة نفوذه في سوريا بمنطقة النفوذ الشيعية، في محاذاة الحدود من الجهة اللبنانية. وهذا الأمر يلتقي تماماً مع الطروحات التي يجري تحضيرها لسوريا، حيث تتوزّع مناطق النفوذ المذهبية والقومية.
هذا السيناريو سيُحْدِث انقلاباً عميقاً في لبنان.
فسيكون أمام السنّة اللبنانيين أن يرفضوا سيطرةَ الأسد مجدّداً على مناطقهم في الشمال والبقاع، لكنّهم سيتجنّبون الانجرار إلى فتنة مذهبية. فيما سيتمسّك الأسد بشعار تحرير المنطقة وأهلها من إرهاب «داعش».
وهناك مَن يتحدّث عن تخطيط لجعلِ جانبَي الحدود منطقة نفوذ واحدة. وهذا يقتضي إحكامَ السيطرة على كلّ البقَع من الجهة اللبنانية، ما يَسمح بمدّ منطقة النفوذ بمحاذاة الحدود، من الشمال إلى الجنوب، بلا انقطاع.
وهكذا، قد يلعب «داعش» دوراً ملتبساً في لبنان، كما هو دوره في سوريا والعراق وسواهما. فمِن خلاله ستَسهل عملية الشرذمة وإعادة رسم الخرائط. وهذا ما يؤكّد مجدّداً أنّ «داعش» ليس سوى عنوان جرى اختراعه لبلوغ غايات معيّنة، وسينتهي عند استنفاد هذه الغايات.
في المبدأ، يريد الأسد إعادةَ سيطرته على سوريا بكاملها، لكنّه ليس قادراً على تحقيق هذا الهدف حتى الآن. وكذلك يبدو صعباً تحقيق طموحه إلى استعادة السيطرة الكاملة على لبنان، مباشرةً أو في شكل غير مباشر. وربّما تقتضي الواقعية الاختيارَ بين التقاتل والتقاسم. وهذان الاحتمالان يتحسَّب لهما الجميع على الأرجح.