رجع الحريري إلى لبنان ولم يرجع. العارفون بأحوال البلد يجزمون أن عودته إلى السلطة تقتضي تفاهماً من نوع ما مع «حزب الله»، وهو ما يستعصي حكماً في هذه اللحظة الإقليمية الحرجة. إذاً، الرجل قام بما يتوجب عليه القيام به بالكامل بوصفه رأساً لـ «السنّية السياسية» في لبنان التي لا يمكنها إلا أن تتماهى مع المزاج السعودي الحاد هذه الأيام.
ماذا عن سمير جعجع؟ الحكيم نزل إلى «البيال» باعتبار أن للمناسبة رمزيتها في ما فوق السياسة ودهاليزها، لكن الشيخ أبى إلا أن يتمشيخ على حليف آبق. ربما يُعتبر هذا من يوميات القصور الحاكمة في الرياض. لكن الفشل في ترك ممارسات الرياض في الرياض جعل الحريري في مقام من ضيّع في لحظة «إيغو» دافقة جهد الماكينة الإعلامية لتيار «المستقبل»، التي لطالما عملت على التصدي لتهمة التغول على الشريك المسيحي والسطو على حصته الميثاقية.
فقط من التقط ملامح وجه الرئيس السنيورة في اللحظة التي اتهم فيها الحريري جعجع بأنه فوّت على المسيحيين فرصة المصالحة «من زمان»، يدرك كم أن الخطأ كان فادحاً، فإهانة الضيف مما لم يتواتر في الحياة السياسية اللبنانية. الأمر يتعدى السياسة. في النهاية الذكرى هي مأتم من نوع ما والخطأ أخرج المناسبة من حرمتها وأدخلها في دهاليز السياسة. بدا واضحاً أن العثرات استطالت على مواقع التواصل الاجتماعي ولم تتمكن «هالة» الحريري كما وصفها إعلامه أن تحتويها، فجرى تنظيم «برمة» واسعة على بعض القيادات، ربما فقط لتمرير زيارة الحكيم في معراب، مع الأمل أن تتخذ هذه الزيارة أقل قدر ممكن من شكل الاعتذار. قيل إن الزيارة كانت مخططة مسبقاً، وقيل إن الأمر لا يتعدى خطأ إملائياً وقع فيه الشيخ على ما جاء على لسان أحد المحسوبين عليه، لكن الضرر وقع.
لماذا أخطأ الحريري؟ من يقارن الإطلالات الأولى للشيخ مع إطلالته الأخيرة، يعثر على مساحة تطور هائلة لجهة شكل الخطاب والأداء. ينجح الحريري الآن في التفاعل مع الجماهير ويملك ثقة تؤهله لارتجال النكات مع قدرة مقبولة على التحكم بنبرة صوته. هو ليس الخطيب الأبرز في لبنان، لكن مستشاريه أبلوا بلاءً حسناً. ومن نافل القول إن أغلب الساسة في لبنان يستعينون بخدمات المستشارين في إطلالاتهم أيضاً. يبقى أن لقدرة هؤلاء على المساعدة حدوداً. هم يستطيعون أن يطلبوا منك أن تكفّ عن خلع السترة على المنبر، أن يعملوا على صقل مخارج الحروف، أن يرشّقوا تلك الهوّة بين القراءة والشفاهة، ولكن قاتل الله الأدرينالين. دائماً هناك ضريبة من نوع ما للارتجال. ربما هي مزيج من سوء إدارة تدفق الأدرينالين في مفاصل الخطاب، وفشل في قمع ممارسات القصور في الرياض، مع تسرّب للمضمر من دونية العلاقة مع الحليف على فلتات اللسان. وبأي حال، في الشكل قطع الحريري أشواطاً وهو ليس لديه الكثير ليقطعه بعد. أما في المضمون، فذلك مما ليس للحريري دور مقرر فيه. خيارات التماهي مع الراعي الإقليمي حاسمة، وما هو ليس حاسماً شكل التعبير عن التماهي. وبالتأكيد فإن إهانة الرأس المسيحي الأبرز لقوى «الرابع عشر من آذار» ليس من مندرجات التماهي الضرورية.