يحتاج الحاكم إلى من يحميه من الإفراط في الأحلام إلى حد الوقوع في الأوهام. تتضاعف الحاجة إذا كان حاكماً لبلد ينام على ثروات. وفي غياب المؤسسات والضمانات لا يجرؤ رئيس جهاز أو وزير أو مستشار على تعكير مزاج الحاكم بتقرير يتحدث عن صعوبات أو مبالغات أو أخطار. وغالباً ما يسمع الحاكم ما يرضيه أو يثلج صدره بمعزل عن الوقائع والحقائق.
والحقيقة هي أن الأدوار غير الطبيعية التي تنتجها الأوهام سرعان ما تتحول عبئاً على أصحابها. وواضح أن ملابسات «الربيع العربي» أتاحت لقطر أن تلعب دوراً تأسس على قاعدة النيل من أدوار الآخرين وسيادة بعض الدول. دور لا قدرة لقطر على الاحتفاظ به أو إدارته، خصوصاً أنه ضاعف رياح زعزعة الاستقرار في أكثر من مكان. ولا حلَّ لهذا النوع من الأدوار غير العودة عنها والخروج من القاموس الذي أدَّى إليها.
من حق الحاكم أن يحلم. ومن حقه وضع مقدرات بلاده في خدمة أحلامه. لكن الأحلام يجب أن تأخذ في الاعتبار خريطة البلد وقدرتها على احتمال المغامرات. ثم من قال إن من حق الحاكم أن يمارس أحلامه وأوهامه على أراضي الآخرين. كأن يقرر من يحكمهم وأي نظام يجب أن يعيشوا في ظله.
أبدأ من بلدي. هل يحق للبنان مثلاً أن يقرر من يحكم سوريا؟ وإذا أجزنا له هذا الحق فهذا يعني أن من حق سوريا أيضاً أن تقرر من يحكم لبنان. ولا يحق لنا أن نرفض الثانية من دون أن نرفض الأولى.
وفي السياق نفسه نسأل هل يحق لقطر مثلاً، مستفيدة من ثروتها أن تقرر من يجب أن يحكم مصر؟ ثمة فارق بين أن يكون لقطر رأي في الوضع القائم في مصر وأن تدعم جهات تحاول تغييره بالقوة. وإذا اعتبرت قطر أنها صاحبة حق طبيعي في التدخل في مصر فلماذا لا يحق للأخيرة أن تعامل قطر بالمثل؟
هل يحق لقطر مثلاً أن تقرر من يجب أن يكون الرئيس أو وزير الدفاع في ليبيا، مستفيدة من قدرتها على اجتذاب أشخاص أو فصائل في بلد مفكك؟ ولماذا تنكر على الآخرين حق القيام بتدخلات من القماشة نفسها؟
هل يحق مثلاً لقطر أن تدعم مجموعات تتسلل إلى دول لا تنتمي إليها وتمعن فيها قتلاً وتفجيراً ثم تنطلق من تلك الدول في إطلالات دموية في هذه العاصمة أو تلك؟
من حق الدول أن تحلم. وأن تدفعها الثروة إلى المبالغة لكن ليس من حقها العبور من منطقة الأحلام إلى منطقة الأوهام. وحدها الأدوار الطبيعية تدوم. الأدوار الكبرى تنفجر بالدول الصغيرة ما لم تكن متوافقة مع القانون الدولي والأعراف. لا تستطيع الدول الصغيرة هضم أدوار كبيرة انتزعت بالمناورات وحياكات ما تحت الطاولة. ولا تستطيع الأدوار التي تنتزع على عجل وخلافاً للمنطق العيش طويلاً على حساب الأدوار الطبيعية.
تسقط الدول كما الأفراد في إغراء الدور. الوساطات العلنية أو السرية. التدخلات المباشرة أو بالواسطة. ويبلغ الأمر حداً خطراً حين يصبح صاحب الدور مقتنعاً أنه قادر على إعادة صياغة موازين القوى في منطقة شائكة وقادر على تعديل توازنات تاريخية فيها.
ملاعب الشرق الأوسط مثيرة وتغري بالتدخل. وتجد الدول دائماً أعذاراً لتجاوز الحدود وتصفية الحسابات. لكن هذه الملاعب مفخخة أصلاً. ويصعب أن تسلس قيادها لصاحب دور مستحدث ولا يملك ركائز الديمومة. وسواء كان حصان هذا الدور الثروة أم الإسلام السياسي أم غيرهما فإن مآل هذا التوجه هو الاصطدام الحتمي بالوقائع.
المخرج الحقيقي من الأزمة الراهنة يكمن في العودة من زمن الأوهام. يحق لقطر أسوة بغيرها أن يكون لها رأي فيما يجري في المنطقة والعالم لكن لا يحق لها أن تسخر قدراتها على أنواعها في مشروع للاضطراب الكبير في المنطقة. وهو اضطراب يصبُّ في النهاية في خدمة القوى غير العربية في الإقليم.
وعلى رغم اختلاف الدول والأحجام والحقبات ثمة دروس لا بد من تعلمها. ألم يكن اجتياح الكويت ثمرة من ثمار عبور صاحب الأختام في العراق من مرحلة الأحلام إلى مرحلة الأوهام؟ ألم يعتقد صدام حسين أنه قادر على تغيير الموازين وأن المنطقة ستقر له بما فعل، وأن العالم سيضطر إلى التعايش مع القوي؟ والنتيجة لا تحتاج إلى شرح أو تعليق.
ذات يوم عبر معمر القذافي منطقة الأحلام إلى فخ الأوهام. أرسل أمواله سراً إلى مجموعات مسلحة في أكثر من قارة. لم يتردد أحياناً في استخدام سفارات الجماهيرية لإرسال المتفجرات. تحرش بالدول القريبة والبعيدة. استقبل رئيس وزراء بريطانيا توني بلير وجلس بحيث يكون حذاؤه قبالة وجه الزائر. أين القذافي وأين بلير؟ أين ليبيا وأين بريطانيا؟ وذات يوم ابتهج العقيد لأن سيلفيو برلسكوني تقدم منه وقبل يده؟ أين برلسكوني وأين القذافي؟ وأين إيطاليا وأين ليبيا؟
على الحاكم أن يتنبّه لمباخر المداحين. إنها سم خالص. تريد إطالة إقامة أصحابها قرب صاحب الأختام. تدفعه إلى فخ الأوهام ومن هناك تبدأ الكارثة. ما أصعب أن تستولي الأوهام على صاحب الأختام.