Site icon IMLebanon

بحث عن فلسطين من بكفيا!

كان المؤتمر الذي استضافه «بيت المستقبل» في بكفيا تحت عنوان «حل الدولتين وما يستتبعه: التصورات الموازية لمستقبل القضيّة الفلسطينية وإمكانات التسوية» مناسبة لاكتشاف أمور كثيرة، بما في ذلك وجود بحث مستمر عن فلسطين وعن كيفية استعادة شعبها للحدّ الأدنى من حقوقه.

من بين هذه الأمور أيضاً الكلام عن احتمال تقديم إدارة ترامب، في غضون أسابيع، مبادرة لايجاد تسوية على مراحل بعيداً عن حلّ الدولتين أو في إطار هذا الحل. تقوم المبادرة الأميركية المُفترضة على انفتاح متبادل بين العرب وإسرائيل من جهة وتقدّم بين الفلسطينيين والإسرائيليين من جهة أخرى. انّها عودة الى سياسة الخطوة خطوة ولكن في إطار إقليمي وفي إطار ما تشهده المنطقة من تطورات مصيرية تصبّ في إعادة تشكيلها.

افتتح المؤتمر الرئيس أمين الجميّل الذي حرص على أن يبدأ النقاش بالنشيدين اللبناني والفلسطيني تعبيراً عن تمسك اللبنانيين بعدالة القضية الفلسطينية على الرغم من كل ارتكابات المسلحين الفلسطينيين في سنوات الحرب. النشيد الفلسطيني في بكفيا حدث بحدّ ذاته لا يتفوق عليه سوى حدث البحث عن فلسطين من تلك البلدة العريقة التي كانت مهددة بغزوة لـ«الفدائيين» في مرحلة معيّنة من أجل تهجير أهلها. لم تفت مفارقة عرض ما آلت إليه القضية الفلسطينية في مؤتمر منعقد في سراي بكفيا أحد الفلسطينيين الأذكياء. قال وهو يتمتع بجمال المكان وبهندسة سراي بكفيا: لماذا كان علينا أن ندخل البلدة بالسلاح ومن الجبال المطلة عليها بدل أن نزورها معززين مكرّمين كبني آدميين كما يحصل الآن؟

كانت الأرقام التي صدرت عن فلسطينيين جاؤوا من الضفة الغربية مخيفة. هناك ما يزيد على ستمئة وخمسين ألف مستوطن إسرائيلي في الضفّة الغربية. هؤلاء يقيمون في مئة وخمسين مستوطنة. ذهب أحد المشاركين الى تأكيد أن عدد المستوطنين بات يقارب الـ800 ألف.

من اللافت في المؤتمر أن عدداً لا بأس به من المشاركين فيه ما زالوا يعيشون في الأوهام وفي ظل شعارات تجاوزها الزمن. لا يمكن تجاهل أن القضية الفلسطينية لا تزال قضية مركزية، وهذا ما شدّد عليه أمين الجميّل وأن حلّها يساعد في دعم الاستقرار في المنطقة، لكن الواقع يقول إن هموم العرب باتت مختلفة. لكلّ دولة عربية مصالح خاصة بها تعكس المخاوف التي لدى هذه الدولة، وهي مخاوف ناجمة في معظمها عن المشروع التوسّعي الإيراني الذي أخذ مداه بعد الحرب الأميركية على العراق في العام 2003 والتي كان من نتائجها تقديم البلد على صحن من فضّة الى إيران.

لم يكن في المؤتمر أيّ جهد حقيقي لمحاولة فهم حال الترهّل التي تعاني منها السلطة الوطنية الفلسطينية. كانت هناك على العكس من ذلك سجالات فلسطينية ـ فلسطينية توحي بان هناك فلسطينيين ما زالوا يعتقدون أنّ «جمهورية الفاكهاني» ما زالت قائمة وأن ياسر عرفات ما زال في بيروت وأن المطلوب التنافس مع «فتح»، التي لم تعد «فتح»، حتّى لو كان من يسعى الى هذا التنافس تنظيم فلسطيني صغير لا قيمة تُذكر له في الأراضي الفلسطينية لا يزال في مرحلة البحث عن دور ما.

كان مؤتمر بكفيا غنيّاً الى حد كبير. لم يكشف أن هناك فلسطينيين ما زالوا يعيشون في الأوهام فحسب، بل كشف أيضاً أن هناك فلسطينيين يريدون التصالح مع الواقع. بين هؤلاء نبيل عمرو الوزير السابق في السلطة الوطنية الذي شغل موقع السفير في موسكو وفي القاهرة لاحقاً. اعتبر نبيل عمرو، وهو من الخليل، «انّ الخوف حالياً هو على الوضع الداخلي الفلسطيني. في السياسة لا ينقرض شيء. اتفاق أوسلو وحل الدولتين ما زالا قائمين». وعندما طرح موضوع المبادرة الأميركية الجديدة المفترضة كان تعليقه «أنا أعرف ماذا يريد الأميركيون وماذا يريد الإسرائيليون. علينا أن نسأل أنفسنا ماذا نستطيع أن نأخذ وماذا نستطيع ان نعطي».

لم يكن «بيت المستقبل» الذي أسسه أمين الجميّل منتصف سبعينات القرن الماضي المنظم الوحيد للمؤتمر، بل كانت هناك مؤسسات أخرى ساهمت في جعل المؤتمر حقيقة. هناك «مؤسسة كونراد اديناور» و«مركز ولفريد مارتنز» و«مركز القدس للدراسات السياسة». أدى التعاون بين المؤسسات الأربع الى توفير مناخ سمح لعدنان أبو عودة الوزير الأردني ورئيس الديوان الملكي سابقاً بالقول «ان هنري كيسنجر كان صاحب فكرة اعتبار قمة الرباط في العام 1974 منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني». كان الهدف من ذلك تحويل الضفّة الغربية المحتلة منذ العام 1967، عندما كانت تحت سيادة الأردن، الى أرض «متنازع عليها» بين إسرائيل والفلسطينيين.

كان بين أفضل من لخص ما جرى في بكفيا الديبلوماسي والاستاذ الجامعي ناصيف حتي الذي تحدث عن «ديبلوماسية إدارة الصراع». كان في غاية الدقة عندما قال إن العرب «يمارسون الديبلوماسية من دون عامل القوّة».

كان هناك بحث عن فلسطين من بكفيا. كثيرون تحدثوا في المؤتمر، لكن قليلين أظهروا من خلال ما قالوه أن ثمّة حاجة الى ربط كلّ كلام بالواقع وبموازين القوى القائم.

ليس أسهل من إطلاق الشعارات في وقت زالت دول عربية مثل العراق وسوريا من الوجود. ليس أسهل من قول أيّ كلام عندما يعتقد المرء أن لا شيء تغيّر في خمسين عاماً، أي منذ هزيمة 1967. هناك دولتان عربيتان مرتبطتان بمعاهدة سلام مع إسرائيل، هما مصر والأردن وهناك دولة، هي سوريا تاجر النظام فيها بفلسطين، فزالت من الوجود. وهناك وضع فلسطيني مأزوم تعبر عنه بوضوح، ليس بعده وضوح، استحالة إعادة الربط بين الضفة الغربية وغزة، فضلاً عن عدد المستوطنات الإسرائيلية وعدد المستوطنين في الضفّة… وقيادة فلسطينية تمتلك عملياً دور رئيس البلدية وتتصرف من منطلق أنّها دولة حقيقية موجودة بحد ذاتها.