مع وصول ديفيد كاميرون إلى بيروت، بداية هذا الأسبوع، أبلغ برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة الحكومة اللبنانية قراره بالتوقف عن دفع مبلغ 13 دولارًا أميركيًا (فقط لا غير) شهريًا لكل لاجئ سوري مسجّل ضمن برنامج مفوضية اللاجئين، اعتبارًا من الشهر المقبل، وهو ما يمثّل كارثة حقيقية بالنسبة إلى لبنان الذي ينوء تحت وطأة تحمّل وجود ما يقرب من مليوني لاجئ سوري!
المفارقة الصارخة أن كاميرون شدّ الرحال إلى لبنان والأردن ليعاين من قرب مشكلة اللجوء السوري، التي تُغرق الدول الأوروبية في دوّامة تكاد تهدد «اتفاقية شنغن» بالسقوط، بعد الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها بعض الدول الأوروبية لضبط حدودها، في وجه التصاعد الكبير في أعداد اللاجئين الذين يتدفقون من سوريا وليبيا والصومال وحتى من العراق.
كاميرون الذي تفقد مخيم تل الزهور في البقاع على تخوم سوريا، وجلس على الأرض محادثًا عددًا من العائلات، تعمّد أن يكرر هذه المشهدية الدعائية في مخيم الزعتري في الأردن، الذي يستقبل ما يزيد على مليون لاجئ، لكن يبدو أنه جاء لتسويق فكرة التفافية على مشكلة اللجوء المتفاقمة، التي أحيت ذكريات أوروبية تعود إلى عام 1945!
ذلك أن الدول الأوروبية تنظر إلى لبنان والأردن وكأنهما مصدران محتملان لحركة لجوء كبيرة يمكن أن تشكّل تسونامي بشريًا قد يضرب الشواطئ الأوروبية الجنوبية، ففي البلدين خزان طافح باللاجئين السوريين الذين فقدوا الأمل في توقف قريب للحرب، بما يتيح لهم العودة إلى مدنهم وقراهم ولو مدمّرة، وخصوصًا الآن، بعدما انزلقت روسيا إلى القتال مباشرة إلى جانب بشار الأسد، كما تنزلق إيران منذ عامين وأكثر، ولهذا قد ينفجر هذا الخزان دفعة واحدة، بعدما شاهد اللاجئون كيف أن إخوتهم الذين نجحوا في عبور المتوسط إلى الضفة الشمالية أتيحت لهم فرصة جديدة لحياة أفضل!
على خلفية هذا، يطرح كاميرون فكرته التي تقول إن من الأفضل والأسلم أن يبقى اللاجئون حيث هم في الدول المحاذية لسوريا، و«أن بريطانيا تجد ضرورة في أن تتركز المساعدات المقدمة للاجئين في دول المنطقة للمساهمة في الحفاظ على حياة هؤلاء ومنعهم من الدخول في مغامرة محفوفة بالمخاطر بغية الوصول إلى أوروبا»، هكذا بالحرف، رغم أن الذين يصعدون إلى قوارب الموت المحتمل، كما فعل إيلان الكردي وعائلته، يحاولون الهرب من الموت بالتقسيط، إلى احتمال حياة جديدة، ولو كان الموت متربصًا في البحر!
يقول المثل: «الأعماق تكذّب البَحّار»، وها هي المصادفات تكذّب كاميرون عندما يتبلّغ لبنان مع وصوله، أن برنامج الغذاء العالمي قرر التوقف عن دفع الـ13 دولارًا في الشهر لكل لاجئ، وهو مبلغ لا يشتري فنجان القهوة لكاميرون أو لغيره، ولهذا ليس واضحًا ولا مفهومًا كيف يمكن أن يحصل اللاجئون على المساعدات التي يتحدث عنها، ولا من المفهوم كيف يمكن للدول الأوروبية «أن تحذو حذو بريطانيا فتقدم المزيد (المزيد؟) من المساعدات إلى الدول المضيفة، لأنه من دون المساعدات يمكن لمئات الآلاف أن يخاطروا بحياتهم للوصول إلى أوروبا»!
ما الترجمة العملية لهذا الكلام؟
في بساطة كلية: دعوا اللاجئين عندكم يغرقوا في الموت جوعًا أو يأكل بعضهم بعضًا، خوفًا من أن يغامروا فيغرقوا في البحر المتوسط، الذي يبدو أنه ابتلع المساعدات الأوروبية التي يتحدث عنها المستر كاميرون.
نعم.. قبل عامين، دعا لبنان في قمة الدول المانحة الذي استضافتها الكويت إلى تقاسم أعباء اللاجئين، بعدما وصلت أعداد المسجلين منهم والعابرين فوضويًا إلى ما يقرب من مليونين، أي ما يوازي 42 في المائة، من عدد سكانه، ولم يستجب أحد لهذه المناشدة، وحتى مبلغ الـ370 مليون دولار الذي أقرّته القمة له لم يحصل منه إلا على 34 في المائة، فعن أي مساعدات يتحدث كاميرون، وحتى «مبلغ» الـ13 دولارًا في الشهر توقف؟
يوم الاثنين الماضي، عجز وزراء خارجية الدول الأوروبية المقتدرة والغنية عن الاتفاق على تقاسم أعباء 120 ألف لاجئ (فقط لا غير) موجودين في إيطاليا واليونان والمجر، بينما كان لبنان البلد الصغير المأزوم سياسيًا والمنهك اقتصاديًا يستقبل ويتحمل أعباء هذا العدد كل شهرين أو ثلاثة، ثم إن وزير خارجية لوكسمبورغ يان أسليورن الذي ترأس الاجتماع يقول إن غالبية الدول التزمت مبدأ إعادة توزيع هذا العدد، لكن الجميع لم يوافقوا عمليًا على تحمل حصصهم من اللاجئين!
كل ما توصل إليه هذا الاجتماع أنه صادق على قرار تقاسم أعباء استقبال نحو أربعين ألف لاجئ خلال عامين، انسجامًا مع الاتفاق الذي كانوا قد توصلوا إليه في الماضي، رغم أنهم لم يحددوا حتى الآن وجهة 32 ألف شخص داخل دول الاتحاد، بما يعني ضمنًا أنه إذا استوعبت دول الاتحاد فعلاً وعددها 28 دولة الـ40 ألف لاجئ، تكون حصة كل دولة 60 لاجئًا في السنة، وهو ما يستقبله كل من لبنان والأردن في ساعة!
لست أدري إذا كان الأوروبيون يفهمون معنى القول «شرّ البليّة ما يضحك»، ولكن المضحك المبكي أن تبدو «اتفاقية شنغن» مهددة في معناها ومغزاها لجهة الحدود المفتوحة بين دول الاتحاد، ذلك أنه بعد التدفق غير المسبوق لأعداد اللاجئين عبر حدود المجر والنمسا وصولاً إلى ألمانيا، أغلقت الحدود المجرية في روسكي، في حين برزت عمليات المراقبة الألمانية المشددة على حدود النمسا، بعدما باتت ألمانيا الوجهة المفضلة للاجئين الذين قد يصل عددهم إلى ما يقرب من المليون.
والمضحك المبكي أن تكون أنجيلا ميركل في الطريق إلى مواجهة أزمة سياسية داخلية على خلفية ما بدا أنها سياسة فتح الذراعين أمام اللاجئين، وهو ما يثير الآن حملة ضدها، حيث تقول «دير شبيغل» إن الحلم الجميل قد انتهى، ها هي ميركل تغلق الحدود بعدما حاولت على مدى أسبوعين تقديم نفسها للعالم مثالاً إنسانيًا يحتذى!
إذن لنقل إنها بحور العار من سوريا إلى أوروبا وصولاً إلى روسيا وأميركا، فالمأساة في بعدها لا تتوقف عند آلام اللاجئين، بل عند تصاعد دفق اللجوء، فها هو بوتين ينخرط ميدانيًا في الحل العسكري مع إيران إلى جانب النظام السوري، ولهذا سيكون الذين يغرقون في بحور الدماء وبراميلها القاتلة أكثر من الذين يغرقون في المتوسط، وستتضاعف أعداد الذين سيفرون هربًا من هول النار إلى أهوال اللجوء.