ـــ ١ ـــ
تبدو كأنها حالة «هروب جماعي» او خوف من مقابلة الشياطين الخارجة من شقوق الارض… هذه هي الهواجس التي تحكم «العقل الجمعي» في لحظة عابرة، ليست هي الاكثر رعبا مقارنة بسؤال: لكن ماذا بعدها؟
افواج المهاجرين/الهاربين لم تعد خافية، والارقام ترتفع، والطوابير تستطيل، والقوانين المضادة للجوء الجماعي تتزايد.
اوروبا تهتم بدفاعاتها ضد الهجرة غير الشرعية باتفاقات امنية مع الدول المصدرة. اما الهجرة الشرعية فقد وصلت الى معدلات صادمة («السفير» نشرت أمس تقريراً يؤكد ان اكثر من ربع اللبنانيين يخططون للهجرة). الغرب حائر بين احتياجاته الى هذه الهجرة وبين الخوف منها، باعتبارها غارات «الاستعمار المعاكس»، كما ان المهاجرين هم تعبير عن ازمة «فتح الباب ام اغلاقه» او «نسافر ونترك بلاداً يرقص فيها الموت عاريا في الشوارع؟ ام نبقى هنا انتظارا للحظة ما بعد الموت؟».
هذه ازمات كاشفة عن كوابيس مسيطرة على المزاج والوعي، تتجاوز في تعقيدها كوابيس حروب كبرى وحروب اهلية، بل ان مجرد خبر اغلاق سفارات بريطانيا وكندا واستراليا لاعمالها القنصلية قد اصاب المصريين بالرعب، وهي اخبار لم تكن مهمة، لكن في حالة انتظار المجهول/الهول الكبير تعدّ مثل هذه الاخبار اشارات او علامات، اضافة الى كونها اغلاق «باب الخروج» إلى الابد.
ـــ ٢ ـــ
والتغير المدفون في موسم الهجرة هذا، هو النزعة الى انقاذ «الحياة» من كوارث الاجماعات السياسية التي عاشتها هذه البلاد خلال عقودها الماضية.
هناك نزعة الى ربط السياسة بالحياة، لا بالصراع السياسي وتداعياته الطائفية او القبلية او كل ما تعبر عنه هشاشة دخول الحداثة على بنية قديمة قادرة على التسرب، بل والشراكة القاتلة.
الهجرة هذه المرة ليست سياسية بالكامل، رفضاً لصيغة سياسية مثل انتصار «نخبة حاكمة» او هزيمة طائفة او صعود ايديولوجيات خلاصية، لكن انقاذا لفرصة في الحياة… تلك الفرصة التي تساهم صيغ الدول التي تحت «عقدها الاجتماعي» المهلهل، بما يؤهل ليس فقط الى «الفشل»، لكن الى دفن تلك الفرص نفسها في الحياة.
هنا يسحب الصراع السياسي من «النخب» التي حكمت وتصر على الاحتفاظ بالمجتمعات رهينتها، ويتسرب تدريجياً الى مجتمعات دفعت دفعا الى النوم في مقاعد المتفرجين.
ـــ ٣ ـــ
«الدولة الرهينة» مصطلح استخدمه البنك الدولي في تقريره الاخير ليصف نوعاً من الدول رهينة شركاتها. تتحكم شبكة هذه الشركات في مفاتيح الحكم والسلطة من مركز اتخاذ القرار الى بنية المؤسسات والاهم في منظومة العدالة (التشريع بالاساس).
البنك الدولي، وهو احدى المنظومات المحافظة في حماية الماكينة الرأسمالية، ينتقد سياسات عدم المساواة، باعتبار ان الدولة بوقوعها رهينة هذه الشركات «تعيق التوظيف وحل مشكلة البطالة»… وتضرب مثلا بمصر حيث الدولة رهينة 496 شركة تملكها 32 عائلة فقط تقيم في «محميات سياسية «… حصلت على تصاريح بثرواتها بسبب قربها في النظام السابق، وحاصرت السلطة باحتكارها فرص البرلمان او تداول السلطة، لتمنع امكانية اعادة توزيع الدخل لتحقيق قدر اكبر من المساواة (هي التي يدافع عنها البنك الدولي باعتبارها شرط تحقيق معدلات نمو).
وهنا يمكن النظر الى جزء من الازمة التي تغذي موسم الهجرة، وهي فشل الدولة في استيعاب طاقات معطلة (متجسدة في كتل البطالة التي تتضخم بمعدلات رهيبة)، وهو الفشل الذي يدفع بها الى حماية نفسها من افتراس الرأسمالية المتوحشة (التي منحتها تراخيص التوحش)… تلك الحماية تأتي بمزيد من حصار المجتمع ليصبح «رهينة» في يد نخبة الدولة التي هي رهينة الشركات المتوحشة…
هذه الدائرة كابوسية… وتفسر فشل الدولة في مواجهة عصابات «داعش» او حل مشكلات الكهرباء او حتى في الحفاظ على سرية اجتماعات اجهزتها السرية… تتآكل قدراتها على تشغيل صيغها القديمة…
والحلول تبدأ بكسر تلك الدائرة الجهنمية.