IMLebanon

مقاعد ومواكب

 

أخبرني أحد الأصدقاء أنّ المطران أغناطيوس مبارك، الذي عُرِف في الأربعينيات بقوة شخصيّته، جاء لحضور احتفال رسمي، فجلس على مقعد في الصفوف الأخيرة، ولما أبصَره صاحب الدعوة بادرَهُ بإلحاح قائلاً: سيّدنا مكانك في الصف الأول، أرجوك أن تنتقل إليه. فأجابه المطران: يا ابني، حيث أجلس يكون الصف الأول، ولبث في مقعده.

أذكر هذه الحادثة، للإشارة الى أنّ وجهاء هذا الزمن من زعماء ومتزعّمين يتسابقون بمناسبة كل احتفال الى احتلال مقاعد الصف الأول، حتى إذا امتلأت وحضر مسؤول ذو صفة رسمية، اضطرّ منظّم الاحتفال الى التمنّي على أحد الجالسين في الصفّ الأول إخلاء مقعده ليتمكّن من إجلاس المسؤول مكانه؛ فيمتثل الجالس مبدياً امتعاضه من تلك المعاملة غير اللائقة.

فحبذا لو أنّ المتهافتين على الجلوس على مقاعد الصف الأول يتذكّرون قول السيد المسيح في إنجيل لوقا، وقد رأى المدعوّين يتخيّرون المقاعد الأولى: «إذا دعيت الى وليمة فلا تجلس في المقعد الأول، فلربما دُعيَ مَن هو أكرم منك، فيأتي الذي دعاك فيقول لك: تنحّ له عن هذا الموضع، فتقوم خجولاً وتتحوّل الى الموضع الآخر.

ولكن إذا دعيت، فاجلس في المقعد الآخر، حتى إذا جاء الذي دعاك قال لك: قم الى فوق يا أخي، فيعظمُ شأنُك في نظر المدعوّين».
إنّ كلام السيد المسيح هذا هو في رسم الزعماء والمتزعّمين لعلّهم يدركون أنّ مَن رفعَ نفسَه وضعَ ومَن وضعَ نفسَه رفعَ.

وفي السياق ذاته، من المناسب مقارنة تصرّف هؤلاء الزعماء والمتزعّمين بالمواكب، التي ترافق تنقلاتهم من منازلهم الى مكاتبهم أو الى المطاعم المدعوّين اليها. إنّ تلك المواكب المؤلفة من سياراتهم ذات الزجاج الداكن اللون ومن عدة سيارات مرافقة، رباعية الدفع ومزوّدة بصفارات، يستعملونها لإفساح المجال لهم للمرور بسرعة، تزعجُ المواطنين العاديين، الذين يعانون الأمرَّين من زحمة السير، التي تزيد تلك المواكب من وطأتها، وتشكلُ، أكثر من ذلك، خطراً على السلامة العامة.

ولا يسعنا، في هذا المجال، إلّا أن نُقارن مواكب هؤلاء بما جاء في «مواكب» جبران من وصف للمعجبين بأنفسهم وبأصواتهم، الذين ينطبقُ عليهم هذان البيتان:

من معجَبٍ بأمور وهو يجهلُها وليسَ فيها له نفعٌ ولا ضررُ
ومن عتيٍّ يرى في نفسه ملكاً في صوتِها نغمٌ في لفظِها سورُ

وتجدر الإشارة إلى أنّ الموكب المرافق لوزير الخارجية الأستاذ جبران باسيل لم يتمكّن من تجاوز زحمة السير، فوصل معاليه متأخّراً عن الموعد المحدَّد لاستقبال زميله وزير خارجية الولايات المتحدة، الذي بقيَ وحيداً في صالون القصر الجمهوري ينتظر قدومَ نظيره اللبناني.

وأذكر أنني، أثناء تولّي وزارة الإعلام، كنت أتلافى الحضور إلى مكتبي أو الخروج منه في الأوقات التي كنتُ أعرف أنّ بعضاً من زملائي الوزراء ستتحرّك مواكبُهم خلالها ذهاباً وإياباً.

أتفهّمُ جيداً أن يأخذَ بعض الوزراء – بحكم وظيفتهم – الاحتياطات اللازمة، بسبب المخاطر الأمنية التي يتعرّضون لها. غير أنّه من واجبهم أن يأخذوا في الاعتبار حقوق المواطنين ومصالحهم، وأن تقتصر هذه الاحتياطات على الوزراء المعنيّين، فلا تشمل عدداً كبيراً من الوزراء والموظفين الحاليين والسابقين، الذين يتوهّمون أنهم مهدَّدون في سلامتهم، في حين أنهم بتصرّفاتهم يُهدّدون سلامة الآخرين.

أمّا إذا كان هؤلاء قد تلقّوا تهديدات أو أنهم على علم بما يحيطهم من مخاطر، فليحذوا حذو بعض المسؤولين الذين لا يتنقّلون إلّا عند الضرورة، حفاظاً على سلامتهم، فيتجنّبون هكذا تعرّض حياتهم لأيّ خطر ويتلافون في الوقت ذاته إزعاج عامة الناس.