IMLebanon

الجيش الثاني في لبنان

في كتير ناس يتحجّجون بأزمة الصحافة لإيجاد عذرٍ لأنفسهم لعدم شراء صحيفة، والاكتفاء بالإعلام الإلكتروني الإكسبرس المبني على اللايك الظاهر على آخره. وإذا كان البعض لا يريدون صرفَ ألفِ ليرة لبنانية لشراء جريدة في الكُشك، يمكنهم استثمار أموالهم المنقولة بطريقة ثقافية واقتصادية بحجر واحد، فبمجرّد أن يقصدوا مطعماً أو كافيه لتناولِ الفطور سيَحصلون على الجريدة التي يريدونها بشكل مجاني مع منقوشة زعتر حتى لو لم تكن إكسترا… ليكتشفوا بعد قراءة بعض المقالات والتحليلات والنصوص النقدية أن ليس هناك أزمة صحافة، لا في لبنان ولا في العالم أجمع، وإنّما هناك فقط أزمة قرّاء كانوا هم السبب في ظهورها وتناميها وتفَشّيها… أزمة خطيرة لدرجة تتطلّب إضاءةَ ذلك الضوءِ الأحمر الذي يَظهر في الأفلام لإعلان حال الطوارئ القصوى.

في البدء كان الكلمة، ولكن يعيش القرّاء العصريون في فبركةِ أنّ في البدء كانت الصورة والفيديو ومِن بعدهما الطوفان، ولم يعُد الاهتمام في قراءة ما هو ثمين بل في التهامِ أكبر كمّية من العناوين والأخبار، دون أن يكون لها تأثير واضح أو إفادة طويلة الأمد. وعمليات القصف الإعلامي العشوائية اليومية تشكّل مساحةً واسعة ليتعلّم منها القارئ، ولكن ليس بالضرورة شيئاً مفيداً، إذ أصبحت غالبية الأشياء التي يتعلّمها سخيفةً ومتردّية.

والمشكلة الفعلية في لبنان وحتى في العالم هي الفارق الشاسع بين أعداد المتعلّمين والمثقّفين، حيث يزداد عدد الأوّلين بشكل كبير (وهيدا شي منيح) ويتضاءل حجم الآخرين بوتيرة مخيفة (وهون الكارثة)… وهيدا مش تنظير، لأنّ القسم الأكبر من القرّاء اليوم هم مِن زبائن الـ«وان دولار»، ولكنّهم يتأفّفون من غياب الماركات التقيلة والمنتجات المرتّبة على الرفوف الرخيصة… أكيد لن يجدوا هناك نصّاً يُدلّكون به أدمغتهم أو يدلّلون به ثقافتَهم حتى لو كان هناك 100 مصدر للأخبار السيئة بتركيبتها ومضمونها.

كلمة وصوت وصورة هي العدّة التي يُبنى عليها الإعلام، سواءٌ بقيَت الجرائد والإذاعات والتلفزيونات بشكلها الحالي أو اختفَت جميعُها، ومهما تبدّلت الوسائل وتعدّدت المخارج الإلكترونية، يبقى الصحافي مدماكَ المجتمعات وصانعَ سياساتها حتى لو كتبَ النصّ بريشةِ دجاجةٍ أو داكتيلو أو كيبورد، أو حتى صَنَع الخبر في جبّالة باطون أو أخرجَه من بوز «سيرانغ»… وطالما إنّ الوسيلة بحدّ ذاتها ترتبط بشكلٍ مباشر بذوق الرأي العام ومتطلبات العصر، لا يهمّ تبدُّل شكلِها وتطوّرُه طالما إنّ هناك أقلاماً ناضجة تسهَر على حراثة الرأي العام وضمان جودة إنتاجاته وحسنِ تصريفها.

وبعيداً من الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والنازية وخطورتها جميعها على المجتمعات العالمية، لم يكن لأيّ واحدة منها تأثيرات كارثية أكثر من «الاستهلاكية» (Consumerism)، هذه النزعة التي حوّلت أكلَنا إلى وجبات سريعة، ولُعَبَنا إلى إلكترونية، وملبسَنا إلى Outlets، وقهوتَنا إلى سوداء أميركية، وإعلامَنا إلى رَسَن إيروتيكي يقودنا إلى النصوص التي تُخاطب شهواتنا وليس أدمغتنا…

ومِتل ما في جبنة بلدية وزعتر برّي بالضيعة، ومِتل ما زال هناك أصالة في الأزياء والفنون والجمال، هناك أيضاً كمّيات مهولة من الصحافيين القادرين بشَخطة قلم على إعادة انتشالنا من جحيم ذوقِنا المهترئ.

الإعلام يَلتهم المتابعين، والأخبار تلتهم اللايكات، والقرّاء يلتهمون الصحافة الإباحية والأخبارَ العنفية… ولكن في مكانٍ ما، خلف مكتبٍ وفوق ورقةٍ وأمام شاشة، يَجلس جيشٌ من صانعي الرأي العام والسياسات وممّن يجتهدون لوضعِ الوطن على سكّتِه، جيشٌ يَعمل بجدّ ويستمرّ في النشر على رغم قلّةِ القرّاء، ليقول: أذكُر يا إنسان أنّ حرّيتك ومسؤوليتك ورأيَك مِن الصحافة وإلى الصحافة تعود.