IMLebanon

السرّ وصاحبه

من ينصف المترجم الذي ينكبّ ليالي وأسابيع وشهوراً وسنوات على أعمال أجنبية لكي ينقلها بأمانة وخلق الى القارئ العربي، فيجعل الأدب العالمي في متناوله؟

لم أجد فعلاً يواجَه بالإجحاف مثل فعل الترجمة الذي يتولاّه أشخاص زهّاد عباقرة. فعلٌ كهذا يشبه التبر الذي يعثر عليه أحدهم في مكان مكشوف، لكنه عندما يعثر عليه، وحتى بعد أن يعثر عليه، ويستفيد منه، لا يسأل مَن هو هذا الشخص الكريم الذي وضع هذا التبر هناك، قصداً وعلناً.

لكأن المترجم في نظر أكثرية المتلقين ليس أكثر من “موظف” أو “خادم” عند الكاتب والقارئ. ولكن كم من ترجمة منحت النص الأصلي فرصة العيش والانتشار والخلود. بل كم من ترجمة فاقت الأصل، حتى ليُذكَر، أحياناً، اسم المترجم، قبل ذكر اسم الكاتب الأصلي؟

أعرف مترجمين لبنانيين وعرباً، من النوع المتمكن والمبدع، أمضوا قسطاً وافراً من حياتهم ونشاطهم في الظل المجحف، قياساً بالضوء الساطع الذي يكلل هامات الكتّاب الذين ترجموا لهم كتبهم. علماً أن أصحاب هذه الكتب المترجمة ما كان يمكنهم أن يحظوا بالمراتب الذتي يحظون بها في الحياة الثقافية العربية والعالمية لولا الأيدي البيضاء للمترجمين.

يحلو لي هنا أن أذكر الشاعر الراحل بسام حجار، والشاعر سامر أبو هواش، وقبلهما ومن جيل آخر أتذكر جبرا ابرهيم جبرا. ترجماته في النقد والفن والرواية والشعر وضعت مدماكاً أساسياً رائداً في مكتبة الترجمة منذ الستينات. أنسي الحاج أيضاً، مترجماً بعض روائع المسرح العالمي. وثمة الكثير الكثير من الكتّاب الآخرين الذين لمعت أسماؤهم في هذا المجال.

أعرف أعمالاً أدبية ما كان ليكون لها الأثر الحاسم في تاريخ الثقافة العالمية لولا الترجمة: “ألف ليلة وليلة” مثلاً، “رباعيات الخيام”، أعمال شكسبير، “دون كيشوت” لثرفانتس، “أزهار الشر” لبودلير، الروائع الروائية الروسية لتولتسوي وتشيخوف ودوستويفسكي وسواهم.

هذا الفن الصعب، الذي يجمع بين متنافرَين هما الأمانة والخلق، يتطلب من المترجم أن يكون قادراً في الآن نفسه على الخروج من ذاته الى ذات الكاتب ووجدانه وخياله وضميره وثقافته، وعلى الخروج باللغة الى لغة ثانية.

هذا التزويج الهادئ، المرن، الدقيق، المبدع، للنص الأصلي في لغة ثانية، لا يمكنه أن يحظى بالديمومة الخلاّقة إذا لم يكن ملمّاً بكل أسرار النص ومكوّناته ودلالاته. ولكي يحصل مثل هذا الزواج المضيء، لا بدّ من ضوء عميق جداً يحمله المترجم الخلاق في فانوس روحه ولغته وعقله.

ولا أحد سواه يملك سرّ إشعال هذا الضوء.