على عكس ردات الفعل التي عبّر عنها سياسيون ودبلوماسيون إزاء الخطوة الروسية بالدعوة الى تنظيم مراكز «أيواء» للنازحين في الداخل السوري لاستقبال العائدين من دول الجوار السوري، كانت أوساط لبنانية تنتظرها بفارغ الصبر. فما كان مطلوباً من أطراف عدة أقدمت عليه موسكو تزخيماً لمساعي الحل السياسي ولحشر الرافضين لهذه العودة. فما هو الدافع الى هذه الخطوة؟ والى ماذا استندت؟
رغم حجم المفاجأة التي ولّدتها المبادرة الروسية لإنشاء مراكز إيواء للنازحين السوريين في الداخل السوري في بعض الأوساط السياسية والدبلوماسية، فإنّ هناك من اللبنانيين مَن توقّع هذه الخطوة التي جاءت بوقائع تنهي الشكوك والمخاوف من تقسيم سوريا وفرز أبنائها مذهبياً وقومياً وعشائرياً.
فقد عبّر المسؤولون الروس في كثير من المناسبات امام مسؤولين اممين ولبنانيين عن مواقف حادة من ملف النازحين السوريين واعطائه الأولوية، بعدما أزهقت الحرب أرواح مئات الآلاف من المدنيين عدا عن معاناة ملايين السوريين النازحين في الداخل والى دول الجوار السوري وفي دول الشتات.
على هذه الخلفيات، يتطلّع المراقبون الدبلوماسيون الى الخطوة الروسية المقبلة بكثير من القلق الممزوج بالكثير من الأمل، بأنّ مثل هذه الخطوة ستعيد السوريين الى حيث ولدوا وعاشوا في محيط سكاني فيه خليط ديني واجتماعي وقومي وعشائري لم يكن كثر مُطلعين عليه قبل ان تندلع الحرب في سوريا، عدا عن الحاجة الى إزالة المخاوف التي تركها «الترانسفير» على هذه القواعد الخطيرة التي تهدّد مستقبل البلد الذي كان يتمتع مجتمعه بشيء من العلمانية، بعدما نجح النظام لعقود من الزمن في تغليب لغة «البعث» على الخليط القومي والديني والمذهبي الذي عبّرت الحرب عن نماذج منه.
ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل، لا تخفي مراجع دبلوماسية وسياسية ما كان لديها من معلومات عن مخاوف روسية على مصير التركيبة السورية الطائفية والمذهبية. فموسكو اعترفت في اكثر من مناسبة عن فشلها في إعادة النازحين السوريين الى مناطقهم الأصلية في مناطق مختلفة.
وليس سراً انّ العديد من المسؤولين اللبنانيين والأممين سمعوا من كبار المسؤولين والقادة الروس وأركان الكنيسة الروسية تحديداً اعتراضهم أكثر من مرة على عمليات التبادل السكاني، التي شهدتها معظم المناطق السورية منذ أن جَرت عمليات تبادل سكاني منذ تفاهمات نقل أهالي الزبداني ومضايا الى الشمال السوري، وصولاً الى الإجلاء الشامل لأهالي الفوعة وكفريا الشيعة قبل ايام. ولا ينسى احد عمليات مماثلة جرت في مناطق القلمون والغوطة ومن بعدها في دوما، عدا عن تلك التي شهدتها القصير وارياف مدن اخرى وصولاً الى ادلب وما بين شرق مجرى نهر الفرات وغربه.
وعلى وقع هذه المعطيات، كشفت مراجع معنية انّ سفارة روسيا في بيروت، وتحديداً السفير الكسندر زاسبيكين، بذل جهوداً كبيرة لمعالجة ما كان يسمّيه اللبنانيون وَقف عمليات التبادل والفرز المذهبي في سوريا مخافة الوصول الى وجهَين مخيفين يمكن أن يكسوا مستقبل سوريا، أوّلهما يتصل بتكرار تجربة «الدولة اليهودية» التي تسعى اليها حكومة اسرائيل، وبناء الدويلات المذهبية في محيطها، وثانيهما إمكان انعكاس ما يجري في سوريا على محيطها المتعدد الأديان والقوميات كما الحال في التركيبتين الأردنية واللبنانية.
ولذلك، يقول العارفون انّ زاسبيكين استشار سراً، وناقش في خلوات متقطعة بعيداً من الأضواء خبراء لبنانيين بحثاً عن الآلية الفضلى لترجمة التوجهات الروسية الحامية للتركيبة الطائفية في سوريا.
فكانت الإجراءات الأخيرة – على ما يبدو – إستناداً الى ورقة غير رسمية وضعها خبير في شؤون السكان والنازحين تسلّمها زاسبيكين في 17 كانون الأول 2017. وجاءت الخطوات الأخيرة لتترجم مضمونها تقريباً بما اقترحته من دور محتمل لموسكو وما هو مطلوب منها.
ونَصّت الورقة المكوّنة من 4 صفحات تحت عنوان «روسيا وعودة النازحين السوريين» وكيفية «مساعدة الدول المضيفة للنازحين كتركيا ولبنان والأردن»، انّ على روسيا القيام بدور مهم «بعدما أعلنت الإنتصار على الإرهاب»، وفي إطار سعيها الى «إطلاق العملية السياسية» ان «تمكّن الشعب السوري من العودة الى اراضيه والمساهمة في المصالحة المطلوبة بين الأهالي العائدين والمقيمين».
فالذاكرة السورية والروسية متجانسة، ولا بد من إحيائها بـ»دينامية تعاون إقليمي – دولي» بالتنسيق مع مؤسسات الأمم المتحدة المعنية بالملف لتوَفّر للعائدين «ضمانات أمنية وقانونية وحيادية للعودة».
ومن هنا اقترحت الورقة ان تسعى روسيا الى الآتي من الخطوات:
– عودة كريمة وآمنة بحسب معايير القانون الدولي.
– توفير الضمانات للعودة خصوصاً للمعارضين لنظام الأسد على قاعدة المساهمة في عملية التسوية السياسية.
– رفض مبدأ الترحيل القسري في غياب هذه الضمانات.
ولتأمين الظروف المؤاتية لتنفيذ هذه الإقتراحات، قالت الورقة بما يلي:
– مبادرة لتأمين العودة على مراحل وفق منهجية تبدأ بمناطق خفض التوتر بضمانات روسية وبمواكبة عملانية من الأمم المتحدة.
– إخراج ملف العودة من الاشتباك السياسي الداخلي في لبنان، والذي قد يستخدم لزعزعة الاستقرار فيه.
– وضع ملف العودة ضمن مسار مؤتمري «آستانة» و»سوتشي» ودعوة لبنان الى الانضمام إليه كعضو مراقب؟
– الطلب الى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين القيام بتقدير الموقف وتوفير الضمانات ومقومات الصمود للعائدين، وتزويد روسيا والدول المضيفة بهما.
– إنجاز آلية المصالحات في إطار منظّم وبوسيط أممي ومساهمة روسية.
– إطلاق منصة تنسيق إقليمية روسية – تركية – أردنية ولبنانية مفتوحة يقودها تكنوقراط كي تمهّد للعودة.
– بدء إنشاء مناطق إيواء للنازحين مؤقتة قرب الحدود بما يساعد برامج العودة ولوجستياتها.
والى أن تكتمل المبادرة الروسية المنتظرة تقول المراجع الدبلوماسية، ستبقى هذه الورقة شاهداً على إمكان ان تقوم روسيا بدور يوفّر الحماية لِما تعيشه المنطقة من تنوّع طائفي ومذهبي وعشائري وقومي، وعدم تعميم التجارب المذهبية التي تقود الى قيام كيانات مذهبية وطائفية تبرر قيام «الدولة اليهودية» في إسرائيل. فهل هناك من يلاقي موسكو من لبنان ومن دول الجوار السوري ومن الداخل السوري قبل الآخرين؟