أتَت نتائج انتخابات الرابطة المارونية لتؤكّد التوجّس المتنامي في الأوساط المسيحية والمارونية على السواء من مجريات أحداث الشرق الأوسط التي تؤشّر إلى تغيّرات جذرية وعميقة على مستوى الخريطة الجيوسياسية التي أرسَتها اتفاقية «سايكس- بيكو» حتّى يومنا هذا، بعدما جهد الموارنة لتأسيس الكيان اللبناني والدفاع عنه.
الإقتراع في إنتخابات الرابطة المارونية السبت الماضي لم يكن موجّهاً ضدّ أحد، وتحديداً الفئات التي إعترضت على لائحة التوافق الممكن، بل جاء تأييداً لرصّ صفوف الموارنة في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ لبنان.
فالاقتراع الذي مارسته النخب المارونية بكثافة، ليس انتخاباً تقليدياً موجهاً الى هذا الحزب أو ذاك، وليس سعياً الى إقصاء بعض الموارنة، بل هو دعوة الى جميع الموارنة للانضمام الى حال التضامن القصوى التي يريدها الشارع، والتي تمثل الإطار الذي يضمن حضور الموارنة ودورهم على مستوى خريطة لبنان والشرق الاوسط.
انتخب الموارنة مشروع الدفاع عن لبنان وكيانه، هذا المشروع الذي لا يمكن له أن يستقيم ما لم يتّحدوا في سبيله. فوحدة الموارنة الايجابية والمنفتحة على كلّ المكوّنات اللبنانية هي المدخل الصحيح لإنقاذ لبنان.
ارتكزت الدوافع الحقيقية التي تأسس عليها تشكيل لائحة التوافق الممكن التي ترأسها النقيب أنطوان قليموس على هذه المعطيات. وإذا كان البعض قد صوّر هذا الانجاز على أنه عملية إقصاء منهجية لتيار «المردة» بهدف التقليل من أهميته، فإنّ العرابين الحقيقيين لهذا الاتفاق يؤكدون أن هذا التوافق أريد له أن يؤسس لحالة توافق ماروني عام يتخطى الحسابات الضيقة في السياسة ويرقى الى استراتيجية الوحدة المارونية التي تؤسّس للدفاع عن لبنان وصونهم. والدليل على ذلك أنّ لائحة التوافق نالت شبه اجماع الهيئة الناخبة التي لم تقترع حزبياً بل اقترعت للمشروع والمضمون، إضافة الى الكثافة التي ميّزت هذه الانتخابات شبه المحسومة.
يبلغ عدد المسجلين في الرابطة المارونية 1168 عضواً وهم في غالبتهم من المستقلين غير الحزبيين، وقد سدّد منهم 985 عضواً الاشتراك السنوي، فيما اقترع يوم السبت 767 عضواً أي ما يوازي 78 في المئة من مجموع مسدّدي الاشتراكات، وهي نسبة توازي نسبة الذين اقترعوا في انتخابات العام 2013 الصاخبة التي أوصلت النقيب سمير ابي اللمع الى رئاسة الرابطة بفارق 18 صوتاً.
أما السبت فقد فازت لائحة «التجذّر والنهوض» بنسبة وسطية هي 80 في المئة من مجموع المقترعين، فيما فاز نائب الرئيس توفيق معوض بنحو 60 في المئة من أصوات الهيئة الناخبة في وجه المرشّح غسان خوري صاحب التاريخ الطويل في العمل الماروني والذي تعاطفت معه أعداد كبيرة من المستقلين الذين شكّلوا ماكينة إنتخابية ناشطة لدعمه.
من هنا يطرح السؤال الآتي: ما الذي دفع النخبة المارونية ذات الغالبية المستقلة الى الاقتراع الكثيف سنة 2016 على رغم أنّ المعركة كانت محسومة لصالح قليموس في ظلّ غياب منافس حقيقي؟
يرى عاملون على خطّ التوافق الماروني أنّ السبب كان تأييد الغالبية المارونية للتوافق الماروني الذي أنتجه «لقاء معراب»، والذي يمثل في مضمونه العميق إرادة مارونية صلبة لتخطي السياسات التقليدية والارتقاء الى مستوى التحديات المصيرية التي يواجهها الموارنة ومعهم جميع اللبنانيين؛ كذلك اقترعت النخب المارونية المستقلة لمشروع العبور الى الدولة وإعادة بنائها عبر إعادة التوازن على المستوى الدستوري والاداري والوظائفي، على اعتبار أنّ قليموس قد أعلن في خطاب الترشّح جملة من القضايا الاساسية التي يُجمع الموارنة عليها سواء إعتبروا أنهم ممثلون في اللائحة أم لا.
فكان الاقتراع الكثيف بمثابة تأكيد على هذا المضمون العميق والحاسم للقاء معراب وعلى مندرجاته من جهة، وعلى المشروع الذي تحمله هذه اللائحة من جهة أخرى، ودعوة الى الموارنة الباقين الذين لا يزالون يغرّدون خارج هذا الاطار الى الانضمام اليه، وهو ما يعتبره الموارنة والمسيحيون على السواء أولوية وجودية في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ لبنان والمنطقة.
فالوقت ليس للاقصاء والابعاد في قاموس عرابي الاتفاق، وهو ليس أيضاً للسياسات الضيقة ذات الطابع الريفي، بل هو للتضامن لمواجهة الاخطار الوجودية والاستراتيجية التي يواجهها لبنان والموارنة على السواء.
فإذا كان إعلان الاكراد عن نظام فيدرالي في شمال شرق سوريا هو مقدمة لتقسيم المنطقة وفق ما أكد النائب وليد جنبلاط، وإذا كان هذا المشروع سيطاول المنطقة ومن ضمنها لبنان، يتساءل المتابعون: مَن غير الموارنة قادر على مواجهة هذا المشروع على المستوى اللبناني، وهم مبتكرو لبنان الكبير كمشروع حرية وحياة مشتركة بين اللبنانيين؟
وهل سيستطيع الموارنة ذلك إن لم يكونوا موحدين للدفاع عن المشروع اللبناني الذين أرسوه بالشراكة مع غيرهم من اللبنانيين؟ وإذا كان الموارنة متنوّعين ويتمتعون بالقدرة على الاختلاف في السياسة والسلطة، فهم قادرون كذلك على التضامن حين يدق الخطر على الابواب، وحين يدركون أنّ لبنان في خطر».
ويعتبر المتابعون أنه «واهم كلّ مَن يعتبر أنّ الموارنة عاجزون عن استنهاض الهمم لمقاومة كلّ مشروع يتناقض مع كيان لبنان، فهم المعروفون باجتراح المواقف غير المألوفة في ظروف غير مألوفة. هذا هو تاريخهم، وهذا هو الخط البياني الذين ثابروا على التأكيد عليه طيلة مسيرتهم الطويلة في هذا الشرق». ويسألون: «ألم يقف بينهم مَن قال إنهم قديسو هذا الشرق وشياطينه؟
ألم يستبسل الموارنة في الدفاع عن لبنان يوم اعتبره كبير منظّري السياسة الخارجية الأميركية إبّان الحرب الباردة، هنري كيسنجر، بلداً لا مشروعية سياسية وتاريخية له، ويوم كانوا في شبه عزلة؟
ألم يقف الرئيس سليمان فرنجية والرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل في وجه هذا المشروع وكانوا يومها عزّلاً إلّا من إرادة مقاومة مشروع التوطين وتغيير طبيعة لبنان وكيانه؟».
تشكل نتائج انتخابات الرابطة المارونية مؤشراً إيجابياً إلى وعي النخب المارونية لضرورة التضامن العميق في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ لبنان، ودعوة الى تعميم مضامين لقاء معراب على الجوّ الماروني العام، واستدعاءً لتوسيع هذه المصالحة واتخاذ العبر منها، والتأسيس لحركة مارونية غير مألوفة للدفاع عن لبنان، كمشروع حرّية وحياة مشتركة.