يبدو المأزق اللبناني مرتبطاً في جوهره بأزمة النظام والمنظومة، وليس بانتخابات أو تشكيل حكومة. وقد أنتجت هذه المنظومة مجموعة من المشاكل والعقد المتداخلة، التي قد تحيّر الدارسين في طريقة تناولها. ولعل كلمة السرّ لفكفكة «طلاسم» هذا المأزق مكونة من كلمتين هما «أزمة الثقة» و«الفساد».
النظام السياسي اللبناني يقوم على معادلات وتوازنات طائفية، وعلى محاصصات في المناصب التنفيذية. وخلف الحالة الطائفية تقف أحزاب سياسية ورموز أو عائلات تتحكم بها، بل وتتوارثها. وطوال أكثر من سبعين عاماً فشلت الأحزاب في الخروج من القاعدة الشعبية الطائفية إلى القاعدة الشعبية الوطنية؛ بالرغم من طروحاتها السياسية الوطنية والقومية والإنسانية، وبالرغم من الميول العلمانية والليبرالية لمعظمها. فهي في النهاية، وعند الاستحقاق الانتخابي تعود لتأخذ شرعيتها وقوتها من قاعدتها الطائفية. وأصبح اللبناني مهما كان مثقفاً ومتعلماً ومنفتحاً وليبرالياً يصوت عادة في الانتخابات لممثلي طائفته وليس بالضرورة لممثلي شعبه؛ وهو أمر كرسه النظام السياسي والانتخابي، بدلاً من معالجته. وبدلاً من سعي الأحزاب لتنفيذ برامج بناء ثقة، وتوسيع العمل في المشتركات، قامت في أحيان كثيرة بتعميق الاختلاف، وما يكرس هويتها الدينية والثقافية الخاصة.
وبالتالي فإن الأعوام الطويلة لم تنجح في بناء «الثقة»، وانتقال الإنسان من رعاية الطائفة إلى رعاية الدولة، ومن مربع المحاصصة المفروضة بالانتماء الطائفي إلى مربع الكفاءة والخبرة والأمانة. وكان من مصلحة «لوردات» الأحزاب الطائفية إبقاء الناس في دوائر الخوف والشك، ليشرعنوا بقاءهم كـ«شبكات أمان» لأتباعهم. وهذا أضعف الدولة المركزية، وجعل الزعامات الطائفية معبر المواطن إلى الدولة، وغطاء لعمله وموقعه التنفيذي.
اللعب على وتر المخاوف، وعدم الاطمئنان لمستقبل الطائفة في ظل حالة من التنافس، والتي تتصاعد أحياناً لمنازعات دموية، أغرى زعامات الطوائف بالاستقواء بالقوى الخارجية لزيادة وزنها السياسي ولتقوية وضعها في مواجهة خصومها. وهذا فتح الباب واسعاً لدخول لاعبين إقليميين ودوليين في السياسة الداخلية اللبنانية. فدخل السوريون والسعوديون والإيرانيون، والفرنسيون، والأمريكان… وغيرهم، ليصبح المشهد السياسي اللبناني مرتهناً لمجموعة من التدافعات والحسابات الإقليمية والدولية؛ بل وساحة لتصفية الحسابات فيما بينها. وأصبح المال السياسي الخارجي، والضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية للدول الفاعلة جزءاً من اللعبة، وهو ما زاد في تعقيد المشهد؛ وفي تراجع قدرة الأطراف المحلية على بناء «الثقة» حتى لو أراد معظمها ذلك.
أزمة «الثقة» انتقلت إلى الإنسان اللبناني العادي الذي أصابه الإحباط من المنظومة السياسية ومن طبقة الزعماء، كما أصابه الإحباط من إمكانية التغيير بعد أن أعاد «لوردات» الحرب الأهلية إنتاج أنفسهم في شكل أحزاب، نجحت في العودة للهيمنة والمحاصصة بعد كل انتخابات نيابية على مدى الثلاثين عاماً الماضية. وظلت البنى الديموقراطية والتشريعية مؤسسات هشَّة، ومجرد أدوات، في لعبة النفوذ والمحاصصات التي يديرها «اللوردات».
عزز اللجوء إلى السلاح في إدارة العلاقات الداخلية وفرض المعادلات أزمة «الثقة» وعززت التجربة اللبنانية في أزمة 1958، والحرب الأهلية 1975–1990، ومسلسل اغتيال الزعماء (كمال جنبلاط، وحسن خالد، ورشيد كرامي، ورفيق الحريري،…)، واجتياح بيروت في أيار/ مايو 2008، هذه الأزمة. وأصبح سلاح المقاومة، وتموضعه في الساحة اللبنانية مجالاً للسجال، بين تأكيد على وطنيته ودوره في الدفاع عن لبنان في وجه المشروع الصهيوني وفي كونه رديفاً وسنداً للجيش اللبناني، وبين تشكيك في استخدامه كأداة استقواء طائفي وحزبي وإقليمي، وكعنصر فاعل ومحدِّد في السياسة اللبنانية؛ وبين التعامل «البراجماتي» معه، من قِبَل باقي الأحزاب اللبنانية في إطار بناء التحالفات الداخلية اللبنانية.
وفي بيئة سياسية تعاني من «أزمة الثقة»، وقائمة على المحاصصة؛ صار سلاح «التعطيل»، سلاحاً تلجأ إليه القوى الحزبية الطائفية المتنفذة، إذا رأت أن نصيبها من «الكعكة» ليس كافياً، وأن مصالحها لم تُصَن بالشكل الذي ترغبه. ولذلك، أصبح من السهل تعطيل مشاريع الإصلاح، والمشاريع المتعلقة بالبنى التحتية، والخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه، وحتى جمع النفايات. وهذه أزمة أخرى جعلت لبنان أحد أكثر البلدان تخلفاً في بعض القطاعات كقطاع الكهرباء مثلاً.
وهكذا، فما لم يتم بناء «الثقة» فإن النظام السياسي سيظل يعاني من أزمة جوهرية وبنيوية.
* * *
من ناحية أخرى، فإن الشطر الثاني من كلمة السر في المأزق اللبناني هو «الفساد».
ففي هذه البيئة السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والسياسية، يكون التوافق على تقاسم الكعكة هو سيد اللعبة. وعند بناء التحالفات يتم تقاسم الوزارات والمناصب بين الفرقاء على قاعدة سكوت الآخرين عن ممارسات كل حزب في «حصته». وهذا أوجد بيئة مناسبة للفساد. إذ يصعب أو يستحيل على أي جهة عمل تحالفاتها كاملة دون التغاضي عن ممارسات الشركاء وإلا فقد يكون مصير التحالف الفشل، ومصير الحكومة السقوط.
وبالتالي، وفي بيئة المحاصصة، تم التساهل في استباحة المال العام، وأصبح من الصعوبة بمكان مطاردة الفاسدين الكبار بسبب الغطاء الحزبي الطائفي الذي يملكونه. كما شهد البلد حالة من العجز في تحصيل الضرائب سواء من الجمارك والمنافذ الحدودية أم من المتنفذين الكبار المالكين للشركات وغيرها، وهي إيرادات محتملة تقدر بالمليارات.
ففي بلد يستطيع باستثمار موارده المائية، أن ينتج طاقة كهربائية تكفي لكل بلاد الشام، تدنى إنتاجه ليغطي نصف أو ثلثي حاجة البلد من الكهرباء، وارتفعت ديون البلد المترتبة على الكهرباء إلى نحو 46 مليار دولار؛ ونشأت «مافيات» للمازوت وللمولدات الكهربائية.
وهكذا، أشارت بعض الدراسات إلى أن الناتج المحلي الإجمالي اللبناني الذي بلغ سنة 2019 نحو 56 مليار دولار كان يمكن أن يصل إلى 150 ملياراً لو كانت هناك منظومة حكم شفافة وفعالة. وبدلاً من ذلك، فإن الدين العام تضاعف إلى أكثر من 90 ملياراً ليصبح نحو 170% من الناتج المحلي الإجمالي، وليجعل لبنان ثالث بلدان العالم من حيث المديونية نسبة إلى ناتجها الإجمالي.
وحصلت لبنان على رتبة 137 في مؤشر الفساد (الشفافية) من أصل 180 بلداً، حيث يعتقد ثلثا اللبنانيين أن طبقتهم السياسية والاقتصادية فاسدة، بينما يعتقد 87% من اللبنانيين أن أداء الحكومة متخاذل في مواجهة الفساد.
* * *
ومع الانتفاضة اللبنانية في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تضاعفت الأزمة السياسية، وحصل تدهور في الاقتصاد، ما لبث وباء كورونا أن زاد في تعميقه وتدهوره؛ ليجد اللبناني نفسه بنحو 20% من راتبه الأصلي مقابل الدولار، ولتنضم أكثر من نصف القوى العاملة إلى طوابير البطالة، ولتتصاعد نسبة الفقر إلى أكثر من 55%؛ وليحصل شبه انهيار في النظام المصرفي فتتوقف المصارف عن تلبية الاحتياجات الأساسية لزبائنها أو حتى تسليمهم ودائعهم. ثم ليأتي انفجار مرفأ بيروت ليكشف عن طبقة غير معروفة من الفساد، ولتصل الأضرار إلى نحو 30 مليار دولار حسب بعض التقديرات.
* * *
وهكذا تحولت البيئة الداخلية إلى بيئة طاردة للبنانيين، وتزايدت حالات الإحباط في الوسط اللبناني المتطلع للتغيير، بعد أن وجد أن انتفاضته الشعبية الكبرى يجرى «سرقتها» أو «مصادرتها»؛ وأن أولئك الذين تصدروا المشهد لتلبية مطالبها… هم أنفسهم تلك الطبقة السياسية والاقتصادية المتهمة بالمحاصصة والفساد.
ولذلك، فحلُّ الإشكالية في لبنان ليس في تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة تكنوقراط، أو في انتخابات جديدة… ففي كل الأحوال سيبقى «اللاعبون الكبار» أنفسهم يلعبون وفق شروط اللعبة نفسها، ويمسكون بخيوطها، ويعيدون إنتاج أنفسهم مع كل استحقاق حكومي ومع كل انتخابات جديدة.
وما لم يكن هناك اتجاه جاد ومخلص نحو نظام نيابي غير طائفي، ونحو منظومة حكم غير قائمة على المحاصصة، ونحو التوافق على إقامة بنى مؤسسية فعَّالة وشفافة، ونحو حفظ حقوق الطوائف ضمن نظام متكامل وغير متشاكس…؛ ما لم يتم ذلك، فإن أزمة الثقة وحالة الفساد ستتواصل… وقد تؤدي بالبلد إلى مزيد من الانهيار لا سمح الله.