فجأة قرّر الأميركيون نقل خط سير عملياتهم العسكرية، التي تعتمد على استخدام القوات البرّية الكردية ضد «داعش»، من الرقة الى منبج. وتبعاً لذلك يبحث السؤال عما حمل واشنطن الى هذا التعديل، علماً أنّ السماح للأكراد بدخول منبج تحت غطاء جوّي واستشاري ميداني أميركي وغربي كبير، يشكل تحدّياً أميركياً استراتيجياً لتركيا التي تعتبر منبج خطاً أحمر لا يسمح تجاوزه خصوصاً من قبل الأكراد.
أدّى هجوم قوات سورية الديموقراطية، المدعوم جواً من الطائرات الاميركية حتى اللحظة، الى سيطرتها على ١٠٠٠ كلم من ريف منبج. وأصبحت الآن على مسافة كيلومتر واحد من مدينة منبج المكوّنة ديموغرافياً من٨٠ بالمئة من العرب، وعشرين بالمئة من التركمان.
في غرف العمليات الاستراتيجية للجيش التركي، ينظرون لما يحدث حالياً في منبج وأيضاً لإمكانية سقوطها بيد الأكراد، بوصفها تطوّرات تهدد أمن تركيا القومي بجملة مخاطر جوهرية. لماذا؟
لأنّ منبج أدّت الى إسقاط أبرز خط أحمر تركي استراتيجي في سوريا. وكانت أنقرة نجحت طوال فترة الأزمة السورية السابقة من إرغام جميع المتدخلين في الحرب السورية على احترامه.
وقوام هذا الخط يفيد بانه ممنوع على على أكراد سوريا تجاوز الضفة الشرقية لنهر الفرات الى ضفته الغربية؛ لأنّ عبورهم لسدّ تشرين الكائن في شرق الفرات كما حصل أخيراً باتجاه ضفته الغربية، سيعني عملياً أنّ الأكراد باتوا قادرين على السيطرة على آخر مئة كيلومتر من المناطق التي تؤمّن لهم ربط الأضلع الثلاثة للكانتون الكردي بعضها ببعض: أي من القامشلي الواقعة على حدود العراق حتى «كوباني» (عين عرب) التي هي وسط الكانتون وصولاً الى»عفرين» التي هي منطقته الشمالية.
أضف الى ذلك أنّ تواجد الأكراد غرب الفرات يعني أنهم باتوا يسيطرون على ٦٠٠ كلم من الحدود السورية مع تركيا من أصل ٩١٠ كلم، التي هي إجمال طول الحدود بين البلدين.
باختصار تقدّم الأكراد تحت يافطة قوات سورية التقدمية، للسيطرة على منبج وريفها، سيعني نجاحهم بالتمدد فوق مساحة المئة كيلومتر التي كانت تركيا اعلنتها منطقة محرّمة على الكرد، وسيعني أيضاً نجاحهم بتأمين وصل مناطق الكانتون الكردي الثلاثة، اضافة الى فرض سيطرتهم المباشرة على نحو ثلاثة أرباع الحدود السورية مع تركيا.
لم يكن ممكناً للأكراد الحصول على هذه الجائزة لولا توفر أمرين اثنين؛ الأوّل، غطاء جوّي وسياسي ولوجستي اميركي وغربي مكثّف.
الثاني، موافقة مسعود البرزاني – الحليف المشترك لأنقرة ولواشنطن – بفتح معبر وحيد يقع تحت سيطرته بوجه وصول الإمدادات للمنطقة الكردية السورية التي لا تملك أيَّ منفذ آخر بري أو بحري، على الخارج.
وتوضح وقائع هجوم قوات سورية الديموقراطية الراهن على مدينة منبج، أنّ هذين الأمرين الآنفَي الذكر توفّرا لكرد سوريا.
حقيقة ما يجري في معركة منبج؟
أبرز ملاحظة تسجّل في معركة منبج أنها سجلت أو كرست «سابقة» في علاقة الاميركيين وحلفائهم الاوروبيين مع الارض في سوريا. فللمرّة الاولى تسمح القيادة السياسية في اربع دول غربية بأن ترسل تسللاً، قوات برّية من جيشها لتشارك في الحرب السورية. وهذا يعني أنّ تقليد «النأي بالنفس الغربي» من التورّط براً في سوريا تمّ خرقه الآن في معركة منبج، وذلك للمرة الأولى منذ بدء الأزمة السورية.
ولاشكّ أنّ شعور حكومة دمشق بأنّ الغرب يسجّل «سابقة» مقلقة له في معركة منبج، قد تؤسس لاحقاً لتخلّيه كلياً عن مبدأ عدم التورّط براً في سوريا، هو الذي دفع وزارة الخارجية السورية الى إصدار بيان يدين تواجد قوات غربية في في المنطقة الشرقية الشمالية من ريف حلب حيث يقع ميدان حرب منبج.
وثمّة سؤال في الكواليس المتابعة عن السبب الأساس الذي جعل واشنطن، والاوروبيين معها يقررون في معركة منبج خرق قرارهم المبدئي بعدم المشاركة بقوات برّية في الحرب السورية؟؟
وفق معلومات مصادر أوروبية فإنّ هذا القرار تمّ اتخاذه بعدما تأكدت أجهزة الاستخبارات الغربية من وجود عناصر من جنسيات أوروبية وأميركية تابعة لـ«داعش» في منبج.
وعليه تمّ تكليف هذه القوات المشكلة من فرنسيين وأميركيين وبريطانيين وألمان، بالاشراف على هجوم «قوات سوريا الديموقراطية» على منبج، وقيادة بعض مفاصله البرّية الرئيسة والعمل ميدانياً لضمان تأمين الأهداف النهائية لخطة إسقاط منبج كما صاغتها الجهات العسكرية الاميركية، وهي تتألف من ثلاثة أهداف رئيسة:
الأول، محاصرة منبج بالكامل وعدم السماح بإيجاد أية صفقة مع «داعش» بداخلها، وتحديداً من نوع ترك ممرات آمنة لخروج قواتها منها بمقابل دخول مهاجميها اليها من دون اضطرارهم لخوض معركة التحام مكلفة.
الثاني، تصفية أو أسر كلّ قوات داعش في منبج والسيطرة على المدينة بالكامل.
الثالث، إنشاء «غرفة فرز» في مدينة عين عرب (كوباني) بقيادة أميركية وهي مخصّصة لأن يُساق اليها أسرى داعش الذين يُلقى القبض عليهم في منبج، ليتمّ عبر لجنة استخبارية أميركية موجودة فيها، فرز من ينتمي منهم لجنسيات أوروبية وأميركية، وأيضاً لتحصيل معلومات من الأسرى عن الاعداد الحقيقية للإرهابيين في صفوف داعش وغيرها من الفصائل التكفيرية، من حملة الجنسيات الأوروبية والأميركية.
وتحصي المعلومات عينها عديد القوات البرّية الغربية المشاركة في معركة «منبج»، كالتالي: قوة فرنسية وعديدها ١٥٠ فرداً، ومثلها قوة ألمانية، وأيضاً قوة بريطانية قوامها ٢٥٠ فرداً، إضافة الى قوة أميركية بلغ عديدها خمسمئة عسكري. وتضيف أنّ هذه القوات الغربية نقلت الى ميدان منبج بواسطة المروحيات وانطلاقاً من قواعد عسكرية في كردستان العراق.
وأول أمس، نفت ألمانيا مشاركتها بقوات برّية في منبج، لكن تقارير غربيّة تؤكد عكس ذلك. وتظلّ مفهومة خلفيات حذر ألمانيا؛ فهي الدولة الأكثر استضافة للنازحين السوريين من بين كلّ دول الاتحاد الاوروبي. ويجعلها هذا الوضع اشبه بخاصرة اوروبا الرخوة المعرّضة للاختراق من قبل داعش التي تعتمد نهج دسّ خلاياها بين طوابير النازحين الى القارة البيضاء، لاستخدامهم في توجيه رسائلها الإرهابية الى أوروبا وكلّ الغرب.
هل هناك صفقة مع تركيا؟؟
يبقى في ملف أسرار معركة منبج سؤال لم تُحسم الإجابة عنه بعد، وهو هل يتقصّد الغرب، وخصوصاً أميركا، تحدي مصالح تركيا في سوريا، أم أنّ سيناريو إسقاط منبج تمّ تنسيقه مع أنقرة، وذلك ضمن مبرّر طرحته واشنطن على أنقرة، يفيد أنه لا يجوز استمرارها بوضع حظر على دخول منطقة توجد بصددها معلومات لدى الغرب عن تواجد نوعي لإرهابيّي «داعش» الأوروبيين والأميركيين فيها؟
وتفيد معلومات في هذا الاطار أنّ انقرة وافقت على دخول فصيل «قوات سورية الديموقراطية» الى منبج، ولكن بعد وضعها شرطاً، يٌقال إنّ واشنطن وافقت عليه، ومفاده؛ أن يتمّ إجراء تعديل جوهري على بنية عديده وقوته الصلبة التي ستعبر شرق الفرات وتهاجم منبج. وبموجب هذا التعديل فانه لن تتشكل هذه القوة من غالبية كردية كما هو حال التركيب الأصلي لقوات سورية الديموقراطية، بل من قوة يشكل بينها أبناء العشائر العرب النسبة الغالبة (٢٥٠٠ مقاتل) والباقي أكراد (٦٠٠ مقاتل)!!.