تراهن موسكو على نتائج اجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره التركي رجب طيب أردوغان في سان بطرسبورغ لإنهاء دور تركيا المساهم في دعم المعارضة في الميدان السوري. وتدرك موسكو صعوبة ذلك، نظراً لأنّ تركيا في نهاية المطاف هي عضو في حلف «الناتو»، ولكنها في المقابل تدرك جدية حجم المشكلات القائمة بين أنقرة وواشنطن وأيضاً مع الاتحاد الأوروبي.
تريد موسكو الاستثمار في ازمة اردوغان الراهنة لمصلحة إحداث تغيير في مواقفه من سوريا تؤدي الى ايجاد قواعد اشتباك سياسي وعسكري متفق عليها مع انقرة داخل الازمة السورية، تحاكي أقله ما هو قائم بين موسكو واسرائيل.
وهذا يعني تبادلاً روسياً ـ تركياً للمعلومات الاستخبارية؛ واحترام انقرة لمجال عمل «عاصفة السوخوي» الجوية الروسية في سوريا. واضح أنّ اردوغان بعد محاولة الانقلاب عليه، وشبه عزلته الدولية، بات لا يمانع تطبيع علاقاته مع موسكو، ولو تحت سقف خلافاته معها حول ملفات عدة، ولكن ليس بالحدّ الذي يجعل حلف «الناتو» يغضب منه.
تقول المعلومات إنّ توقيت لقاء أردوغان ببوتين لم يكن هو الوقت المناسب والأفضل الذي يسمح لتقدمهما نحو حلّ خلافهما حول سوريا. فأردوغان يعلم أنه فيما لو قدم لبوتين أيَّ تنازلات تشي بأنه يتخلّى عن إسلاميين يقاتلون في سوريا وحتى في دول القوقاز، فإنّ ذلك سيغضب قاعدته الشعبية ذات الطابع الإسلامي، وسيعرّض نفسه لاهتزاز ثقتها به، وذلك في «لحظة وجودية» بالنسبة اليه، ويعتمد فيها عليها في حمايته من الانقلابيين. في اختصار، ليست لأردوغان في هذا التوقيت أيّ مصلحة في إظهار أيّ إشارة تضرّ علاقته بقواعد حزبه سليل «الإخوان المسلمين».
أضف لذلك، أنّ توقيت لقائه ببوتين لا يتمّ فقط في لحظة يوجد فيها خلاف بين أنقرة وواشنطن، بل يسودها أيضاً فتور بين الكرملين والبيت الأبيض حول سوريا، وتحديداً انطلاقاً من مستجدّات ما حصل في حلب.
ويفسّر هذا الفتور خلفيات تعبير مصادر في البنتاغون امام مسؤولين غربيين عن «قلقها» من لقاء بوتين – أردوغان. وخلفية إظهار «شعور القلق» لدى البنتاغون، لا يعود مصدره لخشيته على مستقبل تركيا داخل «الناتو» أو خروجها عن سياسته الاستراتيجية في الشرق الأوسط، بل لأنه يعتبر توقيتها مضرّاً ولا يخدم هدف ثني موسكو عن المضي في معركة حلب.
وبحسب معلومات روسية وسورية فإنّ فتح موسكو، بالتعاضد مع إيران، معركة حلب، خلقت نوعاً من الانقسام في بيئة القرار الأميركي؛ حيث إنّ كلّا من البنتاغون ووكالة الـ»سي آي إيه» اعتبرتاه نوعاً من التجرُّؤ الروسي الذي سبّب إخلالاً بالتوازن العسكري في سوريا؛ وكلاهما يطالبان إدارة أوباما بأن تتخذ قراراً بتنفيذ ضربات ضد الجيش السوري تعيد التوازن الى نصابه السابق لبدء حصار حلب.
وأكثر من ذلك تتحدث مصادر روسية وسورية عن وجود اتجاه لدى «البنتاغون» والـ»سي اي ايه» لتنفيذ «خطة ب» في سوريا للرد على إخلال التوازن الناتج من حصار حلب، وتكشف عن إرهاصات هذه الخطة عبر «فضحها» ما يسمونه «اسرار تدخل خارجي» ادى الى نجاح «جيش الفتح» بإحداث خرق ضيق في حصار حلب في اتجاه الكلية الحربية في المدينة.
وتكشف هذه «الأسرار» عن سببين قادا الى النجاح في إحداث هذا الخرق؛ أولهما دخول ثلاثة آلاف مقاتل أجنبي ومن خارج قوى المعارضة الموجودة في سوريا، ميدان حلب بعد ايام من نشوب معركة حصارها، وكان لهؤلاء المقاتلين الأثر الفاعل في إحداث كوة صغيرة، ولكنها صادمة لموسكو، داخل جدار الحصار الذي أنشأه الجيش السوري حول حلب. السؤال الثمين السائد داخل محافل روسية وسورية هو كيف وصلت هذه القوة الى سوريا وعبر حدود أيّ بلد؟.
وتسود تكهّنات بأن الثلاثة آلاف مقاتل، تجمّعوا في الأردن وتمّ نقلهم جواً الى تركيا ومنها عبروا براً في اتجاه ميدان حلب، وكانت نقطة انطلاقهم من خان طومان.
السر الثاني يتعلّق بخطة هجوم الاختراق الذي لم يتميّز فقط بكثافة الهجمات الانغماسية (تتالي موجات الانتحاريين الذين يفتحون الباب أمام عبور مشاة المعارضة داخل طوق الحصار)، بل بالاساس في الخدعة العسكرية التي اعتمدوها، ومنحتهم بالتالي فرصة مباغتة قوات الجيش السوري المحاصرة لأحياء حلب الشرقية.
فالقيادة السورية كانت تعتقد، بثقة عالية، أنّ الهجوم المعاكس لفكّ الحصار سيتمّ من ناحية الريف الجنوبي في اتجاه قلب المدينة، وليس من منطقة ريف حلب الشمالي الشرقي التي انطلق منها (خان طومان) في اتجاه منطقة الراموسة حيث تقع كلية حلب العسكرية الواسعة المساحة.
توحي خطة الاختراق التي جمعت عنصرَي المباغتة من جهة، والإسناد العاجل بدعمٍ بشريّ من خارج سوريا من جهة ثانية، أنّ هناك لمساتٍ أبعد من محلّية تدخلت في وضعها.
وربما كان البنتاغون والـ»سي اي ايه» المستاءان من تجرُّؤ روسيا في حلب ساهما فيها. ولكنّ السؤال المستمرّ حول موقفهما لا يزال يطرح سؤالاً داخل أروقة سورية وروسية، وذلك عما اذا كانت محاولة إحداث كوة في حصار حلب الذي أُعيد ترميمه، هي كلّ طبيعة الرد الذي يطالب به البنتاغون والـ«سي آي ايه» لإعادة التوازن العسكري في سوريا الى مرحلة ما قبل حصار حلب، أم إنّ هناك تتمة له، خصوصاً أنّ مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة صرّحت أمس بأنّ «معركة حلب طويلة»!
وضمن رزمة هذه التساؤلات، طرح بإلحاح سؤال عن السبب الذي جعل «جبهة النصرة» التي تشكل القوة الصلبة داخل «جيش الفتح» تقبل بإطلاق اسم يوسف ابراهيم على هجوم فك حصار حلب.
فيوسف هو اخواني نفّذ عام ١٩٨٠ مجزرة عملية الكلية الحربية في حلب، حيث قام حينها بإعدام ضباط علويين وسنّة بدم بارد. وفحوى السؤال هو لماذا تقبل «النصرة» بأن تهدي رمزية هذا الهجوم لجماعة «الإخوان المسلمين»، ولماذا تقبل فصائل المعارضة الإسلامية الأخرى المشاركة في الهجوم، والتي تجهد لإسباغ نزعة الاعتدال على نفسها، أن تلصق بها عبء عملية إرهابية مدانة دولياً، خصوصاً أنها لم تكن لها يد فيها؟
ترجح الإجابة المتوافرة أنّ منتقي اسم يوسف ابراهيم لعملية اختراق حصار حلب، تقصّدوا فعل ذلك للدلالة على إرث «الاخوان المسلمين» المهم داخل رمزية عملية السيطرة على كلية حلب العسكرية. وفي الأساس تقصّدوا الدلالة على ثقل دور «الإخوان» ولو الرمزي داخل مجمل معركة حلب المتنازعة فيها إرادات دولية وإقليمية.
وفي هذا الأمر «شيفرات» سياسية مهمة، أبرزها احتمالان: إما أنّ الأتراك يشترطون للمساهمة في فك حصار حلب جعل «الإخوان» هم ثقل الوجود التمثيلي لها وفيها في المستقبل، وإما أنّ «جبهة النصرة» الجاري حالياً جهدٌ إقليمي لتلميع صورتها، باتت مستعدة لأن تقايض استبدال افتراقها عن «القاعدة»، بتقارب مع «الإخوان». ويلاحظ أنّ هذه المؤشرات تتفاعل بداياتها في ميدان حلب.
وبكلام آخر يتّضح أنّ معركة حلب قد ترسم معادلة جديدة على مستوى وجود رغبة لدى الإقليميين المعادين للنظام السوري، ومتشاركين في ذلك مع اتجاه عام في البنتاغون والـ«سي اي ايه»، حول إعادة تلميع دور جماعة «الإخوان المسلمين» في سوريا، وذلك انطلاقاً من معركة حلب، وفي اتجاه أن يصبح حجر الرحى السياسي والعسكري داخل كلّ طيف المعارضة الإسلامية السورية ناقص «داعش».
ويتركز الرهان في هذا المجال على استعادة إرث «الإخوان» التاريخي في حلب ضد النظام، والإفادة من أنّ جماعة الإخوان تمثل قوة إسلامية تاريخية داخل الساحة السنّية السورية، وهي مقبولة دولياً (لم تصنّف إرهابية).
اضافة الى أنه يمكن إنشاء حوار تكامل بينها وبين «جبهة النصرة» يؤدّي الى الآتي: تلطيف هوية «جبهة النصرة» كجناح منفصل عن «القاعدة»، وتكاملها مع «الإخوان» يشد من عضدها العسكري على الأرض بعد ما أصابها من وهن، ويعزّز بالتالي من ثقلها الرمزي السياسي السنّي في كلّ سوريا، وذلك انطلاقاً من افتعال تلميع لدورها الوازن في معركة حلب، خصوصاً أنّ هذه المدينة احتضنت ولادة أولى حلقات نشأة «إخوان» سوريا في النصف الأوّل من القرن الماضي.